Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 46, Ayat: 29-32)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : " النفر " بالفتح : الجماعة من ثلاثة إلى عشرة ، وقيل : إلى سبعة ولا يُقال نفر فيما زاد على عشرة ، والرهط والقوم والعشيرة والعشر معناهم الجمع ، ولا واحد لهم من لفظه ، وهو للرجال دون النساء . قاله في المصباح . و { من الجن } نعت للنفر ، وكذا { يستمعون } . يقول الحق جلّ جلاله : { و } اذكر { إِذ صرفنا إِليك نفراً من الجن } أي : أملناهم إليك ، وقبلنا بهم نحوك ، وهم جن نصيبين ، أو جن نينوى ، قال في القاموس : " نِينوى " بكسر أوله ، موضع بالكوفة ، وقرية بالموصل ليونس عليه السلام . هـ . { يستمعون القرآن } منه عليه السلام { فلما حضروه } أي : الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو القرآن ، أي : كانوا منه حيث تمّ وفرغ من تلاوته ، { وَلَّوا إِلى قومهم منذرين } مقدّرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم . رُوي : أن الجنَّ كانت تسترق السمع ، فلما حُرست السماء ، ورُموا بالشُهب ، قالوا : ماهذا إلا لأمر حديث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، لتعرفوا ما هذا ، فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى ، منهم : " زوبعة " فمضوا نحو تهامة ، ثم انتهوا إلى وادي نخلة ، فوافقوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي صلاة الفجر ، فستمعوا القرآن ، وذلك عند منصرفه من الطائف ، حين ذهب يدعوهم إلى الله ، فكذّبوه ، وردُّوا عليه ، وأغروا به سفاءهم ، فمضى على وجهه ، حتى وصل إلى نخل ، فصلّى بها الغداة ، فوافاه نفر الجن يصلي ، فاستمعوا لقراءته ، ولم يشعُر بهم ، فأخبره الله تعالى باستماعهم . وقيل : أمره اللّهُ تعالى أن يُنذر الجن ، ويقرأ عليهم ، فصرف الله إليه نفراً منهم ، وجمعهم له ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إني أُمرت أن أقرأ على الجن ، فمَن يتبعني ؟ " قالها ثلاثاً ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة ، في شعب الجحون ، فخطّ خطّاً ، فقال : لا تخرج عنه حتى أعود إليك ، ثم افتتح القرآن ، وسمعت لغطاً شديداً ، حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي ، وغشيته أسوِدة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم تتقطع كقطع الحساب ، ذاهبين ، ففرغ صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فقال : أنمتَ ؟ فقلت : لا والله ، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، تقول : اجلسوا ، فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " هل رأيت شيئاً ؟ " قلت : نعم ، رجالاً سوداً ، في ثياب بيض ، قال : " أولئك جن نصيبين " وكانوا اثني عشر ألفاً ، والسورة التي قرأ عليهم : { اقرأ باسم ربك } . فلمَّا رجعوا إلى قومهم { قالوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى } قيل : قالوا ذلك لأنهم كاناو على اليهودية ، وعن ابن عباس : إن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام وهو بعيد . حال كون الكتاب { مُصدّقاً لما بين يديه يهدي إِلى الحق } من العقائد الصحيحة ، أو إلى الله ، { وإِلى صراطٍ مستقيم } يُوصل إلى الله ، وهو الشرائع والأعمال الصالحة . { يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله } وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، { وآمِنوا به } أي : بالرسول أو القرآن ، وصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعدما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم لتلازمهما ، دعوهم إلى ذلك بعد بيان حقيقته واستقامته ، ترغيباً في الإجابة ، ثم أكدوه بقولهم : { يغفر لكم من ذنوبكم } أي : بعض ذنوبكم ، وهو ما كان في حق خالصٍ لله تعالى ، فإنّ حقوق العباد لا تُغفر بالإيمان ، وقيل : تغفر . { ويُجركمْ من عذابٍ أليم } موجع . واختلف في مؤمني الجن ، هل يُثابون على الطاعون ، ويدخلون الجنة ، أو يُجارون من النار فقط ؟ قال الفخر : والصحيح أنهم في حكم بني آدم ، يستحقون الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية ، وهو قول مالك ، وابن أبي ليلى ، وقال الضحاك : يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون . هـ . ويؤده قوله تعالى : { وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } كما تقدّم في الأنعام . { ومَن لا يُجِبْ داعيَ الله فليس بمعجزٍ في الأرض } أي : لا ينجي منه مهرب ، وإظهار " داعي الله " من غير اكتفاء بضميره ، للمبالغة في الإيجاب ، بزيادة المهابة والتقرير وتربيته ، وإدخال الروعة . وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض لتوسيع الدائرة ، أي : فليس بمعجز له تعالى وإن هرب في أقطار الأرض ودخل في أعمالقها . { وليس له من دونه أولياءُ } ينصرونه من عذاب الله ، وهو بيان لاستحالة نجاته بواسطة ، إثر بيان استحالة نجاته بنفسه ، وجمع " الأولياء " مبالغة ، إذا كان لا ينفعه أولياء ، فأولى واحد . { أولئك } الموصوفون بعدم إجابة داعي الله { في ضلال مبين } أي : ظاهر : بحيث لا تخفى ضلالته على أحد ، حيث أعرضوا عن إجابة مَن هذا شأنه ، وجمع الإشارة باعتبار معنى " من " ، وأفرادَ أولاً باعتبار لفظها . الإشارة : قد استعملت الجن الأدب بين يديه صلى الله عليه وسلم حيث قالوا : أنصتوا ، فالجلوس مع الأكابر يحتاج إلى أدب كبير ، كالصمت ، والوقار ، والهيبة ، والخضوع ، كما كانت حالة الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم أنصتوا كأنما على رؤوسهم الطير . قال الشيخ أبو الحسن رضي لله عنه : " إذا جالست الكبراء فدع ما تعرف إلى ما لا تعرف ، لتفوز بالسر المكنون " فإذا انقضى مجلس التذكير رجع كل واحد منذراً وداعياً إلى الله كلَّ مَن لقيه ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه : " ليبلغ الشاهد الغائب " فمَن بلغه ذلك واستجاب ربح وغنم ، ومَن لا يجب داعي الله خاب وخسر ، والاستجابة أقسام ، قال القشيري : فمستجيبٌ بنفسه ، ومستجيبٌ بقلبه ، ومستجيبٌ بروحه ، ومستجيبٌ بسرِّه ، ومَن توقف عند دعاء الداعي إليه ، ولم يُبادر إلى الاستجابة هُجِرَ فيما كان يُخَاطب به . هـ . قلت : المستجيب بنفسه هو المستجيب بالقيام بوظائف الإسلام ، والمستجيب بقلبه القائم بوظائف الإيمان ، والمستجيب بروحه القائم بوظائف الإحسان ، والمستجيب بسره هو المتمكن من دوام الشهود والعيان ، وقول : هجر فيما يُخاطب به ، أي : كان يُخاطب بملاحظة الإحسان ، فإذا لم يبادر قِيد بسلاسل الامتحان . والله تعالى أعلم . ثم بَرْهن على قوله ، فليس بمعجزة في الأرض ، فقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ } .