Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 47, Ayat: 33-38)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّهَ } فيما يأمركم به من الجهاد وغيره { وأطيعوا الرسولَ } فيما سنَّه لكم ، { ولا تُبطلوا أعمالَكم } بما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق ، وغير ذلك من مفسدات الأعمال ، كالعجب والرياء ، والمن والأذى ، وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر ، خلافاً للمعتزلة ، أو : لا تبطلوا أعمالكم بأن تقطعوها قبل تمامها . وبها احتجَ الفقهاء على وجوب إتمام العمل فأوجبوا على مَن شَرَعَ في نافلة إتمامها ، وأخذُه عن الآية ضعيف لأن السياق إنما هو في إحباط العمل بالكفر ، لقوله قبلُ : { وسيُحبط أعمالهم } ثم قال : { يا أيها الذين آمنوا } لا تكونوا كهؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم بكفرهم وصدهم عن سبيل الله ، ومشاقتهم الرسولَ ، ويؤيده أيضاً : قوله تعالى : { إِن الذين كفروا وصَدُّوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر اللّهُ لهم } هذا عام في كل مَن مات على الكفر ، وإن صحّ نزوله في أهل القليب . { فلا تَهِنُوا } لا تضعفوا عن الجهاد { وتدعوا إِلى السَّلْم } أي : لا تدعوا الكفار إلى الصلح والمسالمة فإن ذلك إعطاء الدنِيَّة - أي : الذلة - في الدين ، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار " أن " في جواب النهي أي : لا تهنوا مع إعطاء السلم ، { وأنتم الأَعْلَون } الأغلبون ، { واللّهُ معكم } بالنصر والمعونة ، ومَن كان غالباً ومنصوراً والله معه ، لا يتصور منه إظهار الذلة والضراعة لعدوه ، { ولن يَتِرَكُمْ أعمالكم } لن يضيعها ، من : وترت الرجل : إذا قتلت له قتيلاً ، من ولد أو أخ أو حميم ، فأفردته منه ، حتى صار وتراً ، عبّر عن ترك الإثابة في مقابلة العمل بالوتر ، الذي هو إضاعة شيء معتد به من الأنفس والأموال ، مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السُنَّة ، إبرازاً لغاية للطف ، بتصوير الثواب بصورة الحق المستحق ، وتنزيل ترك الإثابة منزلة إضاعة أعظم الحقوق وإتلافها ، سبحانه من رب رحيم ! . { إِنما الحياةُ لعبٌ ولهوٌ } لا ثبات لها ، ولا اعتداد بها ، فلا تُؤثروا حياتها الفانية على الحياة الأبدية بالموت في الجهاد الأصغر أو الأكبر ، { وإِن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم } أي : ثواب إيمانكم وأعمالكم من الباقيات الصالحات ، التي فيها يتنافس المتنافسون ، { ولا يسألكم أموالَكمْ } بحيث يُخل أداؤها بمعايشكم ، وإنما سألكم نزراً يسيراً هو ربع العشر ، تؤدونه إلى فقرائكم . { إِن يسألكُمُوها } أي : جميع أموالكم { فيُحْفِكم } أي : يجهدكم بطلب الكُل ، فالإحفاء والإلحاف : المبالغة في السؤال : وبلوغ الغاية ، يُقال : أحفاه في المسألة : إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح ، وأحفى شاربه : استأصله ، أي : إن يسألكم جميعها { تبخلوا } فلا تُعطوا شيئاً ، { ويُخرجْ أضغانكم } أي : أحقادكم لأن عند سؤال المال يظهر الصادق من الكاذب ، وضمير " لا يسألكم " وما بعدها للّه أو لرسوله . وضمير " يُخرج " لله تعالى ، ويؤيده القراءة بنون العظمة ، أو البخل لأنه سبب الأضغان . { ها أنتم هؤلاء } أي : يا هؤلاء ، وقيل : { ها } : للتنبيه ، و { هؤلاء } : موصول بمعنى " الذين " ، وصلته : { تُدْعَون } أي : أنتم الذي تُدعون { لتُنفقوا في سبيل الله } هي النفقة في الغزو والزكاة ، كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر ، { فمنكم مَن يبخلُ } أي : فمنكم ناس يبخلون به ، { ومَن يبخلْ } بالصدقة وأداء الفريضة { فإِنما يبخلُ على نفسه } فإنَّ كُلاًّ مِن نفع الإنفاق وضرر البخل عائد إليه ، وفي حديث الترمذي : " السخي قريبٌ من الله ، قريب من الجنة ، قريب من الناس ، بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الجنة ، بعيد من الناس ، قريب من النار ، ولجاهلٌ سخيٌّ أحبُّ إلى الله من عابدٍ بخيل " وفي رواية : " من عالم بخيل " والبخيل يتعدّى بـ " عن " ، و " على " لتضمُّنه معنى : الإمساك والعدي . { والله الغنيُّ } عن كل ما سواه ، ويفتقر إليه كُلَّ ما عداه ، { وأنتم الفقراءُ } أي : إنه - تعالى - لا يأمر بذلك لحاجته إليه لأنه الغنيُّ عن الحاجات ، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب ، { وإِن تَتولَّوا } أي : وإن تُعرضوا أيها العرب عن طاعته ، وطاعة رسوله ، والإنفاق في سبيله { يستبدل قوماً غيرَكم } يخلف قوماً خيراً منكم وأطوع ، { ثم لا يكونوا أمثالكم } في الطاعة ، بل أطوع ، راغبين فيما يقرب إلى الله ورسوله ، وهم فارس ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء القوم - وكان سلمان إلى جنبه ، فضرب على فخذه ، فقال : " هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثُريا لتناوله رجالٌ من فارس " . قلت : صدق الصادق المصدوق ، فكم خرج منهم من جهابذة العلماء ، وأكابر الأولياء ، كالجنيد ، إما الصوفية ، والغزالي ، حَبر هذه الأمة ، وأضرابهما . وقيل : الملائكة ، وقيل : الأنصار ، وقيل : كندة ، وقيل : الروم ، والأول أشهر . الإشارة : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } أو خليفته ، وهو الداعي إلى الله على بصيرة العيان ، ولا تُبطلوا أعمالكم ، برجوعكم عن السير ، بترك المجاهدة قبل المشاهدة . إنَّ الذين كفروا بوجود خصوصية التربية ، وصدُّوا الناسَ عنها ، ثم ماتوا على ذلك ، لن يستر اللّهُ مساوئهم ، ولا يُغيّبهم عن شهود نفوسهم التي حجبتهم عن الله . فلا تهنوا : ولا تضعُفوا ، أيها المترفهون ، عن مجاهدة نفوسكم ، فينقطع سيركم ، وذلك بالرجوع إلى الدنيا ، ولا تدعوا إلى السلم والمصالحة بينكم وبين نفوسكم ، وأنتم الأعلون ، قد أشرفتم على الظفر بها ، والله معكم لقوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنآ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] ولن ينقصكم شيئاً من أعمالكم ، بل يُريكم ثمرتها ، عاجلاً وآجلاً ، ولا يفترنَّكم عن المجاهدة طولُ الأمل . إنما الحياة الدنيا لعب ولهو أي : ساعة من نهار ، وإن تُؤمنوا بكل ما وعدَ اللّهُ ، وتتقوا كل ما يشغل عن الله ، يُؤتكم أجوركم عاجلاً وآجلاً ، ولا يسألكم الداعي إليه جميعَ أموالكم ، إنما يسألكم ما يَخف عليكم ، تُقدموه بين يدي نجواكم ، ولو سألكم جميع أموالكم لبخلتم ، ويُخرج إضغانكم ، وهذا في حق عامة المريدين ، وأما الخاصة الأقوياء ، فلو سُئلوا أرواحَهم لبذلوها ، واستحقروها في جنب ما نالوا من الخصوصية ، وأما أموالهم فأهون عندهم من أن يبخلوا بشيء منها ، ويُقال لعامة الطالبين للوصول : { ها أنتم هؤلاء تُدعون … } الآية . قال القشيري : والله الغني لذاته بذاته ، ومن غنائه : تمكُّنه من تنفيذ مُراده ، واستغناؤه عما سواه ، وأنتم الفقراء إلى الله ، في نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، في الابتداء ليخلقكم ، وفي الوسط ليُربيكم ، وفي الانتهاء يفنيكم عن أنانيتكم ، ويُبقيكم بهويته ، فالله غني عنكم من الأزل إلى الأبد ، وأنتم الفقراء محتاجون إليه من الأزل إلى الأبد . هـ . وإن تتولوا عن السير ، وتركنوا إلى الرخص والشهوات قبل التمكين ، يستبدل قوماً غيركم ، يكونوا أحزم منكم ، وأشد مجاهدة ، صادقين في الطلب ، ثابتين القَدم في آداب العبودية ، قد أدركتهم جذباتُ العناية ، وهَبَّتْ عليهم ريحُ الهداية ، ثم لا يكونوا أمثالكم في التولِّي والضعف ، حتى يصلوا إلى مولاهم . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى لله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلّم .