Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 18-21)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { لقد رَضِي اللّهُ عن المؤمنين } وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم بقوله : { إن الذين يبايعونك … } الآية ، وبهذه الآية سميت بيعة الرضوان و " إذ " منصوب بـ " رَضِيَ " ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة ، و { تحت الشجرة } : متعلق به ، أو : بمحذوف ، حال من مفعوله ، أي : رَضِيَ عنهم وقت مبايعتهم لك { تحت الشجرة } أو : حاصلاً تحتها . رُوي : أنه صلى الله عليه وسلم لمّا نزل الحديبية ، بعث خِراش بن أمية الخزاعي ، رسولاً إلى أهل مكة ، فَهَمُّوا به ، وأنزلوا عن بعيره ، فمنعته الأحابيش ، فلما رجع دعا بعُمر ليبعثه ، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي أحدٌ يمنعني ، ولكن عثمان أعزّ بمكة مني ، فبعث عثمان إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه صلى الله عليه وسلم جاء زائراً إلى البيت ، مُعظِّماً لحُرمته ، ولم يُرد حرباً ، فوقروه ، وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل ، فقال : ما كنت لأطوف قبلَ أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتبس عندهم ، فأُرجِفَ بأنهم قتلوه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا الناسَ إلى البيعة ، فبايعوه تحت الشجرة - وكانت سمرة وقيل : سِدرة - على أن يُقاتلوا قريشاً ، ولا يفرُّوا ، وأول مَن بايع " أبو سنان الأسدي " ، واسمه : وهب بن عبد الله بن محصن ، ابن اخي عكاشة بن مِحصن . وقيل : بايعوه على الموت عنده ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنتم اليوم خير أهل الأرض " وقال أيضاً : " لا يدخل النارَ أحد ممن بايع تحت الشجرة " وكانوا ألفاً وخمسمائة وخمسةً وعشرين ، وقيل : ألفاً وأربعمائة . والحديبية بتخفيف الياء ، قاله في المصباح ، وهي على عشرة أميال من مكة . { فعَلِمَ ما في قلوبهم } من الإخلاص ، وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه . وقال القشيري : عِلِمَ ما في قلوبهم من الاضطراب والتشكيك ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين ، فبشّر أصحابه ، فلمام صُدُّوا خامر قلوبَهم شكٌّ ، { فأنزل } اللّهُ { السكينةَ عليهم } أي : اليقين والطمأنينة ، فذهب عنهم . ثم قال : وفي الآية دليلٌ على أنه قد يخطر ببال الإنسان خواطر مشكِّكة ، وفي الرَّيب مُوقعة ، ثم لا عبرة ، فإن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً ألزم التوحيد قلبَه ، وقارن التحقيق سِرَّه ، فلا يضرُّه كيدُ الشيطان . قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ … } [ الأعراف : 201 ] الآية . { فأنزل السكينة عليهم } أي : الطمأنينة والأمن ، وسكون النفس ، بالربط على قلوبهم ، { وأثابهم } أي : جازاهم { فتحاً قريباً } وهو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما تقدّم . { ومغانمَ كثيرةً يأخذونها } وهي مغانم خيبر ، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال ، فقسمها بينهم ، { وكان الله عزيزاً } منيعاً فلا يغالب ، { حكيماً } فيما يحكم به فلا يعارَض . { وعَدَكُمْ اللّهُ مغانِمَ كثيرةً تأخذونها } هو ما فتح على المؤمنين ، وغنموه مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة . والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان . { فعجَّلَ لكم هذه } المغانم ، يعني مغانم خيبر ، { وكفَّ أيديَ الناس عنكم } أي : أيدي أهل خيبر وحُلفاءهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا ، وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح ، { ولِتكون } هذه الكفَّة { آيةً للمؤمنين } وعبرةً يعرفون أنهم من الله بمكان ، وأنه ضامن لنصرتهم والفتح عليهم ، أو : لتكون آية يعرفون بها صدقَ الرسول صلى الله عليه وسلم من وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية بما ذكر من المغانم ، ودخول مكة ، ودخول المسجد الحرام آمنين . واللام إما متعلقة بمحذوف مؤخر ، أي : وليكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف ، وإما يتعلق بعلة أخرى محذوفة من أحد الفعلين ، أي : فعجَّل لكم هذه وكفَّ أيدي الناس عنكم لتغنموها ولتكون … الخ ، { ويهديكم صراطاً مستقيماً } أي : يزيدكم بصيرةً ويقيناً وثقةً بوعد الله حتى تثقوا في أموركم كلها بوعد الله تعالى . قال الثعلبي ، ولمّا فتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم حصونَ خيبر سمع أهل فدك ما صنع عليه السلام بأهل خيبر ، فأرسلوا له يسألونه أن يُسيرَهم ويحقن دماءهم ، ويخلُّوا له الأموال ، ففعل ، ثم صالح أهلَ خيبر ، على أن يعملوا في أموالهم على النصف ، على أنه إن شاء أجلاهم متى شاء ، ففعلوا ، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين ، وكانت فدك خالصة له صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، ولما اطمأن صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر أهدت له زينب الحارث اليهودية شاة مصليَّة مسمومة ، أكثرت في ذراعها السم ، فأخذ صلى الله عليه وسلم الذراع ، فأكل منه ، ثم كلّمه ، فأمسك ، وأكل معه بشر بن البراء بن معرور ، فمات من ساعته ، وسَلِمَ صلى الله عليه وسلم حتى قام عليه بعد سنتين ، فمات به ، فجُمع له بين الشهادة والنبوة . ثم قال تعالى : { وأُخرى لم تَقْدِروا عليها } أي : وعجّل لكم مغانم أخرى ، وهي مغانم هوازن في غزوة حنين . ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجَوْلة . { قد أحاط اللّهُ بها } قَدَرَ عليها واستولى ، وأظهركم عليها ، وهي صفة أخرى لـ " أخرى " مفيدة لسهولة بأسها بالنسبة إلى قدرته تعالى ، بعد بيان صعوبة مَنَالها بالنظر إلى حِذرهم . ويجوز في " أُخرى " النصب بفعل مضمر ، يُفسره { قد أحاط الله بها } أي : وقضى الله أخرى ، ولا ريب في أن الإخبار بقضاء إياها بعد اندراجها في جملة الغنائم الموعودة بقوله : { وعدكم الله مغانم كثيرة } فيه مزيد فائدة ، وإنما الفائدة في بيان تعجيلها وتأخير هذه . وقال ابن عباس والحسن ومقاتل : { وأخرى لم تقدروا عليها } هي فارس والروم . وقال مجاهد : ما فتحوا حتى اليوم . هـ . قلت : بل إلى يوم القيامة وهذا أظهر الأقوال أي : لم تقدروا على أخذها الآن وستأخذونها ، { وكان الله على كل شيء قديراً } لأن قدرته تعالى عامة التعلُّق ، لا تختص بشيء دون شيء . قال ابن عرفة : مذهبنا أن المستحيل لا يصدق عليه شيء ، فيبقى النظر : هل يطلق على الواجب شيء ، لقوله تعالى : { قُلْ أَىُّ شىء أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ } [ الأنعام : 19 ] أم لا يطلق عليه شيء ؟ فإن قلنا : يصلح الإطلاق وجب التخصيص في الآية ، فيكون عامّاً مخصوصاً ، وإن قلنا بعدم صحته ، فيبقى النظر : هل المراد بالقدرة الإحداث أو الصلاحية ، فإن أريد الإحداث فهي مخصوصة ، وإن أريد الصلاحية فهو عام غير مخصوص . هـ . الأشارة : مشايخ التربية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فحين بايعهم على عقد الإرادة فكأنما بايع الرسول ، فيقال على طريق الإشارة : لقد رضي الله عن المؤمنين المتوجهين ، إذ يبايعونك أيها العارف تحت الشجرة ، تحت ظل شجرة همتك ، فعَلِمَ ما في قلوبهم من الصدق ، فأنزل السكينة عليهم ، حتى سكنوا تحت مشاق التربية والرياضة ، وأثابهم فتحاً قريباً ، وهو الوصول إلى حضرة العيان ، ومغانم كثيرة فتوحات ومكاشفات ، وأسرار ، وترقيات كثيرة ، إلى ما لا نهاية له ، يأخذونها . ووعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها بعد الفتح ، من الرجوع إلى البقاء وبقاء البقاء ، والتوسُّع في المقامات ، والترقِّي في معارج المكاشفات ، فعَجَّل لكم هذه ، هو مقام الفناء ، وكفَّ أيدي القواطع عنكم ، لتتوجهوا إلى مولاكم ، لتكون عبرة للمؤمنين المتخلفين عن السير ، يهتدون بهديكم ، ويهديكم صراطاً مستقيماً : طريق الوصول إلى حضرة القدس ، ومحل الأنس ، وأخرى لم تقدروا عليها في الدنيا ، ادخرها لكم يوم القيامة ، وهو المُقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر . وقال الورتجبي : { لقد رضي الله عن المؤمنين } أي : رَضِيَ عنهم في الأزل ، وسابق علم القدم ، ويبقى رضاه إلى الأبد لأن رضاه صفة الأزلية الباقية الأبدية ، لا تتغير بتغيُّر الحدثان ، ولا بالوقت والزمان ، ولا بالطاعة والعصيان ، فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى الأبد ، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية ، ولا بالشهوات ، لأن أهل الرضا محروسون برعايته ، لا تجري عليهم نعوت أهل البُعد ، وصاروا متصفين بوصف رضاه ، فرضوا عنه كما رضي عنهم ، قال تعالى : { رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ المائدة : 119 ] وهذا بعد قذف نور الأنس في قلوبهم بقوله : { فأنزل السكينة عليهم } فسكنت قلوبهم إليه ، واطمأنت به لِتنزُّل اليقين . هـ . قلت : هذا لمَن تحققت محبوبيته ممن رسخت قدمه في شهود الحق ، واطمأن به ، وأما قبل هذا فالأمر مُبهم . قال اللجائي ، في كتابه " قطب العارفين " : وإياك أن تعتقد أنّ في الناس شرّاً منك ، وإن كان عاصياً وأنت مطيع ، فإنّ الأمر يحدث بعد الأمر ، وسِرُّ الله تعالى في خلقه غامض ، لا يُدرى مَن يبوء بالشقاوة ، ولا مَن يفوز بالسعادة ، وقد يتلقى العبدُ رضا الله تعالى بحسنة واحدة ، ويتلقى سخطه بذنب واحد ، فإنَّ أمر الله خفي في غموض المشيئة … الخ . ثم بشَّرهم بالنصر ، فقال : { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ } .