Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 1-3)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّا فتحنا لك } الفتح عبارة عن الظفر بالبلدة عنوةً أو صُلحاً ، بحرب أو بدون ، فإنه ما لم يقع الظفر مُنْغَلِقٌ ، مأخوذ من : فتح باب الدار . وإسناده إلى نون العظمة لإسناد الفعل إلى الله تعالى خلقاً وإيجاداً . قيل : المراد به فتح مكة ، وهو المروي عن أنس رضي الله عنه ، بُشِّر به صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من الحُديبية . والتعبير عنه بصيغة الماضي على سَنَن الأخبار الإلهية المحققة الوقوع ، للإذيان بتحققه ، تأكيداً للتبشير ، وتصدير الكلام بحرف التحقيق لذلك ، وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبَر به - وهو الفتح - ما لا يخفى . وقيل : هو فتح الحديبية ، وهو الذي عند البخاري عن أنس ، وهو الصحيح عند ابن عطية ، وعليه الجمهور . وفيها أُخذت البيعة على الجهاد ، وهو كان سبب إظهار الإسلام وفشوه ، وذلك أنّ المشركين كانوا ممنوعين من مخالطة أهل الإسلام ، للحرب التي كانت بينهم ، فلما وقع الصلح اختلط الناسُ بعضهم مع بعض ، وجعل الكفارُ يرون أنوارَ الإسلام ، ويسمعون القرآن ، فأسلم حينئذ بشر كثير قبل فتح مكة . وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن رجلاً قال : ما هذا بفتح ، لقد صَدُّونا عن البيت ، ومَنعونا ، قال : " بل هو أعظم الفتوح ، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح ، ويسألوكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما يكرهون " وعن الشعبي أنه قال : نزلت سورة الفتح بالحديبية ، وأصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة ، حيث بُويع بيعة الرضوان ، وغُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وبلغ الهَديُ مَحِلَّه ، وبُشِّروا بخيبر ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح به المسلمون ، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة ، وهي أنه نزح ماؤها حتى لم يبقَ فيها قطرة ، فتمضمض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم مجّه فيها ، فدرّت بالماء ، حتى شرب جميع مَن كان معه ، وقيل : جاش بالماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعدُ . وقيل : هو جميع ما فتح له صلى الله عليه وسلم ، من الإسلام ، والدعوة ، والنبوة ، والحجة ، والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كافة إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا هو شعبة من شُعبه ، وفرع من فروعه . وقيل : الفتح : بمعنى القضاء ، والمعنى : قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل ، وأيّاً ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل ، والإيذان بأنّ مناط التبشير هو نفس الفتح الصادر عنه سبحانه ، لا خصوصية المفتوح . قاله أبو السعود . { فتحاً مبيناً } ظاهر الأمر ، مكشوف الحال ، فارقاً بين الحق والباطل . وقوله تعالى : { ليغفر لك اللّهُ } غاية للفتح ، من حيث إنه مترتب على سعيه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله ، بمكابدة مشاق الحروب ، واقتحام موارد الخطوب ، أي : جعلنا الفتح على يديك ، وبسبب سعيك ، ليكون سبباً لغفران الله لك { ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر } أي : جميع ما فرط منك من ترك الأولى ، وما سيقع ، وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل ، وتقدم قريباً تحقيقه . وقول الجلال : " اللام للعلة الغائبة فمدخولها مسبب لا سبب ، لا يريد التعليل على حقيقته العقلية ، فإنه عليه تعالى محال ، وإنما يُريد صورة التعليل ، الذي هو حكمة الشيء ، وفائدته العائدة على خلقه ، فضلاً وإحساناً ، فالحِكمُ والمصالح غاية لأفعاله تعالى ، ومنافع راجعة إلى المخلوقات ، وليس شيء منها غرضاً وعلة غائية لفعله ، بحيث يكون سبباً لإقدامِه على الفعل ، وعلة غائية للفعل لغناه تعالى ، وكماله في ذاته عن الاستكمال بفعل من الأفعال ، وما ورد في الآيات والأحاديث مما يُوهم الغرض والعلة فإنه يُحمل على الغايات المترتبة والحكمة ، فاحتفظ بذلك . قاله صابح الحاشية الفاسية . واللائق أن المعنى : إنا فتحنا لك وقضينا لك بأمرٍ عاقبته أن جَمَعَ الله لك بين سعادة الدنيا والآخرة ، بأن غفر لك ، وأتمّ نعمته عليك وهداك ، ونصرك . فاللام لام العاقبة لا لام العلة فإن إفضال الله على رسوله لا يُعلل ولا يُوازي بعمل . هـ . { ويُتم نعمتَه عليك } بإعلاء الدين ، وضم المُلك إلى النبوة ، وغيرها مما أفاض عليه من النعم الدينية والدنيوية ، { ويهيديَكَ صراطاً مستقيماً } أي : يُثبتك على الطريق القويم ، والدين المستقيم ، والاستقامة وإن كانت حاصلة قبل الفتح ، لكن حاصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق ، واستقامة مناهجه ، ما لم يكن حاصلاً قبلُ . { ويَنصُرَك اللّهُ } أي : يُظهر دينك ، ويُعزّك ، فإظهار الاسم الجليل لكونه خاتمة الغايات ، ولإظهار كمال العناية ، بشأن النصر ، كما يُعرب عنه تأكيده بقوله : { نصراً عزيزاً } أي : نصراً فيه عزة ومنعه ، أو : قوياً منيعاً ، على وصف المصدر بوصف صاحبه ، مجازاً ، للمبالغة ، أو : عزيزاً صاحبه . الإشارة : { إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً } بأن كشفنا لك عن أسرار ذاتنا ، وأنوار صفاتنا ، وجمال أفعالنا ، فشاهدتنا بنا ، ليغفر لك الله ، أي : ليُغيبك عن وجودك في شعور محبوبك ، ويستر عنك حسك ورسمك ، حتى تكون بنا في كل شيء ، قديماً وحديثاً ، قال القشيري : وذنب الوجود هو الشرك في الوجود ، وغفره : ستره بنور الوحدة ، لمحو ظلمة الأثينية هـ . ويُتم نعمته عليك بالجمع بين شهود الربوبية ، والقيام بآداب العبودية ، ودلالة الخلق على شهود قيام الديمومية ، ويهديك طريقاً مستقيماً تُوصل إلى حضرتنا ، فتسلكها وتُبينها لمَن يكون على قدمك ، وينصرك الله نصراً عزيزاً ، بالتمكُّن في شهود ذاتنا ، والعكوف في حضرتنا ، محفوفاً بالنصرة والعناية ، محمولاً في محفَّة الرعاية . ولما نزل قوله : { ليغفر لك الله } قال المؤمنون : هذا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } .