Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 4-7)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { هو الذي أنزل السكينةَ } أي : السكون والطمأنينة ، فعلة ، من : السكون ، كالبهيتة من البهتان ، { في قلوب المؤمنين } حتى لم يتضعضعوا من الشروط التي عقدها صلى الله عليه وسلم مع المشركين ، مَن رَدّ مَن أسلم منهم ، وعدم ردهم مَن رجع إليهم ، ومِن دخول مكة قابلاً بلا سلاح ، وغير ذلك مما فعله صلى الله عليه وسلم معهم بالوحي ، وما صدر عن عمر رضي الله عنه فلشدة قوته وصلابته ، وما زال يعتق ويفعل أموراً كفارة لذلك . وقيل : { السكينة } : الصبر على ما أمر به الله من الشرائع والثقة بوعد الله ، والتعظيم لأمر الله ، { ليزدادوا إيماناً مع إِيمانهم } أي : يقيناً إلى يقينهم ، أو : إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالعقائد . وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : بعث الله نبيه بشهادة " ألا إله إلا الله " فلما صدَّقوه فيها ، زادهم الصلاة ، فلام صدّقوه ، زادهم الزكاة ، فلما صدّقوه ، زادهم الحج ، فلما صدّقوا زادهم الجهاد ، ثم أكمل لهم دينهم ، فذلك قوله : { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنودُ السماوات والأرض } يُدبرها كما يريد ، يُسلط بعضها على بعض تارة ، ويوقع الصلح بينهما أخرى ، حسبنا تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكَم والمصالح ، { وكان الله عليماً } مبالغاً في العلم بجميع الأمور { حكيماً } في تدبيره وتقديره . { ليُدخل المؤمنين والمؤمنات } اللام متعلق بما يدل عليه ما ذكر من قوله : { ولله جنود السماوات والأرض } من معنى التصرُّف ، أي : دَبّر ما دَبَّر من تسليط المؤمنين ، ليعرفوا نعمة الله ويشكروها ، فيدخلهم { جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ويُكَفِّرَ عنهم سيئاتهم } أي : يُغطّي عنهم مساوئهم ، فلا يظهرها لهم ولا لغيرهم . وتقديم الإدخال على التكفير ، مع أن الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى . { وكان ذلك } أي : ما ذكر من الإدخال والتكفير { عند الله فوزاً عظمياً } لا يُقادر قدره لأنه منتهى ما امتدت إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر . و " عند الله " : حال من " فوزاً عظيماً " لأنه صفته في الأصل ، فلما قُدّم عليه صار حالاً ، أي : كائناً عند الله في علمه وقضائه . والجملة اعتراض مقُرِّرٌ لما قبله . { ويُعذِّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } لِما أغاظهم من ذلك وكرهوه ، وهو عطف على " يدخل " ، وفي تقديم المنافقين على المشركين ما لا يخفى من الدلالة على أنهم أحق منهم بالعذاب . { الظانين بالله ظَنَّ السَّوءِ } أي : ظن الأمر السَّوء ، وهو ألا ينصر الله رسولَه والمؤمنين ، ولا يُرجعهم إلى مكة ، فالسَّوء عبارة عن رداءة الشيء وفساده ، يقال : فِعْلُ سَوُءٍ ، أي : مسخوط فاسد . { عليهم دائرةُ السَّوءِ } أي : ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين ، وهو دائر عليهم وحائق بهم . وفيه لغتان : فتح السين وضمها ، كالكَره والكُره ، والضَّعف والضَّعف ، غير أن المفتوح غلب عليه أن يُضاف إليه ما يُراد ذمّه من كل شيء ، وأما السُوء فجارٍ مجرى الشيء الذي هو نقيض الخير ، أي : الدائرة التي يذمونها ويسخطونها دائرة عليهم ، ولاحقة بهم ، { وغَضِبَ اللّهُ عليهم ولعنهم وأعدَّ لهم جهنم وساءت مصيراً } لهم ، وهو عطف لما استوجبوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا ، وعطفَ " ولعنهم " وما بعده بالواو ، مع أن حقهما الفاء المفيدة للسببية إيذاناً باستقلال كل واحد منها بالوعيد ، وأصالته ، من غير استتباع بعضها لبعض . { ولله جنودُ السماوات والأرض } إعادة لما سبق ، وفائدتها : التنبيه على أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب ، كما ينبئ عنه التعرُّض لوصف العزة في قوله : { وكان اللّهُ عزيزاً } أي : غالباً فلا يُردّ بأسمه { حكيماً } فلا يعترض صنعه . والله تعالى أعلم . الإشارة : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المتوجهين ، حتى سكنوا لصدمات تجلِّي الجلال ، وأنوار الجمال ، وسكنوا تحت مجاري الأقدار ، كيفما برزت ، بمرارة أو حلاوة ، قال القشيري : والسكينةُ : ما يسكن إليه القلبُ من أنوار الإيمان والإيقان ، أو العرفان بمشاهدة العيان ، بل الاستغراق في بحر العين بلا أين . هـ . ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ، فيترقُّوا من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان ، ومن مقام الإيمان إلى مقام الإحسان ، أو من علم اليقين إلى عين اليقين ، ومن عين اليقين إلى حق اليقين ، أو من المراقبة إلى المشاهدة ، أو من رؤية الأسباب إلى مسبب الأسباب . { ولله جنودُ السماوات والأرض } وهي الجنود التي يمد الله بها الروح في محاربتها للنفس ، حتى تغلبها وتستولي عليها ، وهي اليقين ، العلم ، والذكر ، والفكر ، والواردات الإلهية ، التي تأتي من حضرة القهّار ، فتدمغ كل ما تُصادمه من الأغيار والأكدار ، وكان الله عليماً بمَن يستحق هذه الواردات ، حكيماً في ترتيبها وتدبيرها ، ليُدخل مَن تأيّد بها جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكَم ، ويغطي عنهم مساوئهم حتى يصلوا إليه ، بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه وهذا هو الفوز العظيم ، يفوز صاحبه بالنعيم المقيم ، في جوار الكريم . ويُعذب أهل النفاق المنتقدين على أولياء الله ، المتوجهين إليه ، الظانين بالله ظن السوء ، وهو أن خصوصية التربية انقطعت . { ولله جنود السماوات والأرض } أي : جنود الحجاب ، وهو جند النفس ، من الهوى والشيطان ، والدنيا والناس ، يُسلطها على مَن يشاء من عباده ، إن يبقى في ظلمة الحجاب ، والله غالب على أمره . ثم شهد لرسوله بالرسالة ، بعد بشارته بالفتح والعصمة ، فقال : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } .