Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 26-26)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : واذكر { إِذ جعلَ الذين كفروا } من قريش أي : ألقوا { في قلوبهمُ الحميِّة } أي : الأنفَة والتكبُّر ، أو : صيّروا الحميةَ راسخة في قلوبهم { حميةَ الجاهليةِ } بدل ، أي : حَميّة الملة الجاهلية ، أو الحميّة الناشئة من الجاهلية ، ووضع الموصول موضع ضميرهم ، إذ تقدّم ذكرهم ، لذمِّهم بما في حيز الصلة ، وتعليل الحكم به . والجعل بمعنى الإلقاء ، فلا يتعدّى إلى مفعولين ، أوك بمعنى التصيير ، فالمفعول الثاني محذوف ، كما تقدّم . و " الذين " : فاعل ، على كل حال . { فأنزل اللّهُ سكينتَه على رسوله وعلى المؤمنين } أي : أنزل في قلوبهم الطمأنينة والوقار ، فلم يتضعضعوا من الشروط التي شرطت قريش . رُوي : أن رسول الله لمَّا نزل الحديبية بعثت قريشٌ سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العُزَّى ، ومِكْرَز بن حفص ، على أن يعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك ، على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، ففعل ذلك ، وكتب بينهم كتاباً ، فقال صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل وأصحابه ما نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، ثم قال : " اكتب : هذا ما صالح عليه رسولُ الله أهلَ مكة " فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمدٌ بن عبد الله أهلَ مكة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " اكتب ما يريدون ، فأنا أشهد أنّي رسول ، وأنا محمد بن عبد الله " فهمّ المسلمون أن يأبَوا ذلك ، ويبطشوا بهم ، فأنزل الله السكينة عليهم ، فتوقّروا وحلُموا . وفي رواية البخاري : فكتب عليّ رضي الله عنه : " هذا ما قضى عليه محمد رسول الله " فلما أَبَوا ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم لعليّ : " امح رسول الله ، واكتب : محمد بن عبد الله " ، فقال : والله لا أمحوك أبداً ، فأخذ صلى الله عليه وسلم الصحيفة وكتب ما أرادوا . قيل : كتب بيده معجزةً ، وقيل : أَمَرَ من كتب ، وهو الأصح . { وإلزمهم كلمةَ التقوى } شهادة " لا إله إلا الله " وقيل : بسم الله الرحمن الرحيم ، وقيل : محمد رسول الله ، وقيل : الوفاء بالعهد ، والثابت عليه . وإضافتها إلى التقوى لأنها سببها وأساسها ، وقيل : كلمة أهل التقوى . { وكانوا أحقَّ بها } أي : متصفين بمزيد استحقاق بها ، على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقاً ، أو : أحق بها من غيرهم من سائر الأمم { و } كانوا أيضاً { أهلها } المتأهلون لها بتأهيل الله إياهم . قال القشيري : كلمة التقوى هي التوحيد عن قلبٍ صادق ، وأن يكون مع الكلمة الاتقاءُ الشرْك ، وكانوا أحق بها في سابق حكمه ، وقديم علمه ، وهذا إلزام إكرام ولطف ، لا إلزام إكراهٍ وعنف ، وإلزامُ بر ، لا إلزام جبر . هـ . { وكان الله بكل شيء عليماً } فيجري الأمور على مساقها ، فيسوق كلاًّ إلى ما يستحقه . الإشارة : لا يصل العبد إلى مولاه حتى تكون نفسه أرضية ، وروحه سماوية ، يدور مع الحق أينما دار ، ويخضع للحق أينما ظهر ، ولأهله أينما ظهروا ، لم تبقَ فيه حَميّة ولا أَنفة ، بل يكون كالأرض يطأها البار والفاجر ، ولا تميز بينهما ، وأما مَن فيه حمية الجاهلية ، فهو من أهل الخذلان ، وأما أهل العناية ، فأشار إليهم بقوله : { فأنزل الله سكينته على رسوله } فكان متواضعاً سهلاً ليناً ، كما قال تعالى : { وَإِنكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] وعلى المؤمنين فأخبر عنهم بقوله : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] الآية ، و " ألزمهم كلمة التقوى " ، " لا إله إلا الله " لأنها تهذِّب الأخلاق ، وتُخرج ما في القلب من الأمراض والنفاق لأن النفي : تنزيه وتخلية ، والإثبات : نور وتحلية ، فلا يزال النفي يخرج مِنَ القلب ما فيه هي الظلمة والمساوئ ، حتى يتطهّر ويتصف بكمال المحاسن . قال في نوادر الأصول ، لمّا تكلم على { وألزمهم كلمة التقوى } : هو " لا إله إلا الله " ، وجه تسميتها بذلك : أنه اتقى بها ونفى ما أحدث من الشرك ، حميةً للتوحيد وعصبيةً وغيرةً ، اقتضاها نورُ التوحيد والمحبة ، فنفى القلبُ كلَّ رب ادعى العبادُ ربوبيته ، وولِهت قلوبهم إليه ، فابتدأ هذا القلب - الذي وصفنا - بالنفي لأرباب الأرض ، ثم سَما عالياً حتى انتهى إلى الرب الأعلى ، فوقف عنده ، وتذلّل وخشع له ، واطمأن وولِه إليه . وقال لنبيه : { سَبْحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ] أي : إن هذه أرباب متفرقون ، والرب الله الواحد القهار ، فهداه إلى الرب الأعلى ، وقال : { وَأنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } [ النجم : 42 ] . ثم قال : ألزم قلوبَهم هذه الكلمة بنور المحبة ، كما قال : { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُم } [ الحجرات : 7 ] ، فبحلاوة الحب ، وزينة البهاء ، صارت الكلمة لازمةً لقلوبهم . وأما قوله : { وكانوا أحق بها وأهلها } فإنما صاروا كذلك لأن الله كان ولا شيء ، فخلق المقادير ، وخلق الخلق في ظلمة ، ثم رشّ عليهم من نوره ، فمَن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومَن أخطأه ضلّ ، فقد علم مَن يخطئه ممن يصيبه . ثم ذكر أحاديث ، من ذلك : حديث ابن عمرو : " إن الله خلق خلقه ، ثم جعلهم في ظلمة ، ثم أخذ من نوره ما شاء ، فألقاه عليهم ، فأصاب النور مَن شاء أن يُصيبه ، وأخطأ مَن شاء أن يخطئه … " الحديث . ثم قال بعد كلام طويل : ثم لمّا نفخ الروح في آدم أخرج نَسَمَ بنيه ، أهل اليمين ، من كتفه الأيمن في صفاء وتلألؤ ، وأصحاب الشمال كالحمَّة سُود من كتفه الأيسر ، والسابقون أمام الفريقين ، المقربون ، وهم الرسل والأنبياء والأولياء ، فقرّبهم كلهم ، وأخذ عليهم ميثاق على الإقرار بالعبودية ، وأشهدهم على أنفسهم ، وشهد عليهم بذلك . ثم ردّهم إلى الأصلاب ليخرجهم تناسلاً إلى الأرحام . هـ . وقال الجنيد رضي الله عنه في قوله : { وكانوا أحقَّ بها وأهلَها } : مَن أدركه عناية السبق في الأزل جرى عليه عنوان المواصلة ، وهو أحق بها ، لِما سبق إليه من كرامة الأزل . هـ . والحاصل : أنهم أحق بها بالسبق بالاصطفائية ، وبقيت نعوتها وأنوارها في قلوبهم ، دون الذي حجبهم الله عن رؤية نورها . قاله في الحاشية . ثم بشَّرهم بفتح مكة ، وصدق الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ } .