Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 28-29)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى } بالتوحيد ، أي : ملتبساً به ، أو : بسببه ، أو : لأجْله ، { ودينِ الحق } وبدين الإسلام ، وبيان الإيمان والإحسان ، وقال الورتجبي : ودين الحق : هو بيان معرفته والأدب بين يديه . هـ . { ليُظهره على الدين كله } ليُعْلِيَه على جنس الدين ، يريد الأديان كلها من أديان المشركين وأهل الكتاب ، وقد حقّق ذلك سبحانه ، فإنك لا ترى ديناً قط إلا والإسلام فوقه بالعزة والغلبة ، إلا ما كان من النصارى بالجزيرة ، حيث فرّط أهل الإسلام ، وقيل : هو عند نزول عيسى عليه السلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر . وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات . { وكفى بالله شهيداً } على أن ما وعده كائن . وعن الحسن : شهد على نفسه أنه سيُظهر دينه ، أو : كفى به شهيداً على نبوة محمد صلى عليه وسلم وهو تمييز ، أو حال . { محمد رسولُ الله } أي : ذلك المرسَل بالهدى ودين الحق هو محمد رسول الله ، فهو خبر عن مضمر ، و " رسول " : نعت ، أو : بدل ، أو : بيان ، أو : " محمد " : مبتدأ و " رسول " : خبر ، { والذين معه } مبتدأ ، خبره : { أشداءُ على الكفار رُحماءُ بينهم } أو : " الذين " : عطف على " محمد " ، و " أشداء " : خبر الجميع ، أي : غِلاظ شِداد على الكفار في حَرْبهم ، رُحماء متعاطفون بينهم ، يعني : أنهم كانوا يُظهرون لمَن خالف دينهم الشدة والصلابة ، ولمَن وافقَ دينهم الرأفةَ والرحمةَ ، وهذا كقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] ، وبلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتَحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثياب الكفار ، ومن أبدانهم أن تمسّ أبدانهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم : أنهم كانوا لا يرى مؤمنٌ مؤمناً إلا صافحه وعانقه . وهذا الوصف الذي مَدَحَ اللّهُ به الصحابةَ رضي الله عنهم مطلوبٌ من جميع المؤمنين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادَّهم وتعاطفهم كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى " رواه البخاري ، وقال أيضاً : " نَظَرُ الرجل إلى أخيهِ شوقاً خيراُ من اعتكاف سَنَة في مسجدِي هذا " ، ذكره في الجامع . { تراهم رُكَّعاً سجداً } أي : تُشاهدُهم حال كونهم راكعين ساجدين لمواظبتهم على الصلوات ، أو : على قيام الليل ، كما قال مَن شاهد حالهم : رهبان بالليل أُسدٌ بالنهار ، وهو استئناف ، أو : خبر ، { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } أي : ثواباً ورضا وتقريباً { سِيماهم } علامَاتهم { في وجوههم } في جباههم { من أثر السجود } أي : من التأثير الذي يؤثّره كثرة السجود . وما رُوي عنه عليه السلام : " لا تُعلموا صوَركم " أي : لا تسمُوها ، إنما هو فيمن يتعَمد ذلك باعتماد جبهته على الأرض ، ليحدث ذلك فيها ، وذلك رياء ونفاق ، وأما إن حَدَثَ بغير تعمُّد ، فلا ينهى عنه ، وقد ظهر على كثير من السلف الصالح غُرة في جباههم مع تحقُّق إخلاصهم . وقال منصور : سألت مجاهداً عن قوله : { سيماهم في وجوههم } أهو الأثر يكون بين عيني الرجل ؟ قال : لا ربما يكون بين عيني الرجل مِثلُ ركبة البعير ، وهو أقسى قلباً من الحجارة ، ولكنه نورٌ في وجوهم من الخشوع . وقال ابن جيرح : هو الوقار والبهاء ، وقيل : صفرة الوجوه ، وأثر السهر . وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى ، وما هم مرضى . وقال سفيان وعطاء : استنارت وجوههم من طول ما وصلُّوا بالليل ، لقوله عليه السلام : " مَن كَثُرت صلاتُه بالليل حَسُن وجْههُ بالنَّهار " وقال ابن عطية : إنه من قول شريك لا حديث ، فانظره ، وقال ابن جبير : في وجوههم يوم القيامة يُعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا لله تعالى . هـ . { ذلك مَثَلُهم في التوراة } الإشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة ، وما فيها من معنى البُعد مع قُرب العهد للإيذان بعلو شأنه ، وبُعد منزلته في الفضل ، أي : ذلك وصفهم العجيب الجاري في الغرابة مجرى الأمثال ، هو نعتهم في التوراة ، أي : كونهم أشدّاء على الكفار ، رحماء بينهم ، سيماهم في وجوههم . ثم ذكر وَصْفَهم في الإنجيل فقال : { ومَثَلُهم في الإِنجيل كزرعٍ … } الخ ، وقيل عطفٌ على ما قبله ، بزيادة " مَثَلَ " ، أي : ذلك مثلُهم في التوراة والإنجيل ، ثم بيَّن المثل فقال : هم كزرع { أخرج شطأه } فِرَاخَه ، يقال : أشْطأ الزرع : أفرخ ، فهو مُشْطِىءٌ ، وفيه لغات : شطأه بالسكون والفتح ، وحذف الهمزة ، كقضاة . و " شطَهُ " ، بالقصر ، { فآزره } فقوّاه ، من : المؤازرة ، وهي الإعانة ، { فاستغلظ } فصار من الرقة إلى الغلظ ، { فاستوى على سُوقه } فاستوى على قصبه ، جمع : ساق ، { يُعجِبُ الزُّرَّاع } يتعجبون من قوّته ، وكثافته ، وغِلظه ، وحُسن نباتِه ومنظره . وهو مَثَلٌ ضربه الله لأصحابه صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ، ثم كثروا واستحكموا ، بتَرَقي أمرُهم يوماً بيوم ، بحيث أعجب الناسَ أمرهم ، فكان الإسلام يتقوّى كما تقوى الطاقة من الزرع ، بما يحتفّ بها مما يتولّد منها . وقيل : مكتوب في الإنجيل : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف ، وينْهون عن المنكر . وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبي بكر ، فآرزه بعمر ، فاستغلظ بعثمان ، فاستوى على سوقه بعليّ . وحكى النقاش عن ابن عباس ، أنه قال : الزرعُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فآزره عليّ بن أبي طالب ، فاسغلظ بأبي بكر ، فاستوى على سوقه بعمر . هـ . واختار ابن عطية : أن المَثَل شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة ، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم بُعِث وحده ، فهو الزرع ، حَبّة واحدة ، ثم كثُر المسلمون ، فهم كالشطْءِ ، تَقَوّى بهم صلى الله عليه وسلم . { ليغيظ بهم الكفار } تعليل لما يُعرب عنه الكلامُ من تشبيههم بالزرع في ذكائه واستحكامه ، أي : جعلهم كذلك ليغيظ بهم مَن كَفَر بالله . { وَعَدَ اللّهُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرةً وأجراً عظيماً } استئناف مُبيِّن لما خصَّهم به من الكرامة في الآخرة ، بعد بيان ما خصَّهم به في الدنيا ، ويجوز أن يرجع لقوله : { ليغيظ بهم … } الخ : أي : ليغيظ بهم وعَدهم بالمغفرة والأجر العظيم لأن الكفار إذا سمعوا ما أُعدّ لهم في الآخرة مع ما خصَّهم في الدنيا من العزة والنصر غاظهم ذلك أشد الغيظ ، و " من " في " منهم " للبيان ، كقوله : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] أي : وعد الله الذين آمنوا من هؤلاء . الإشارة : هو الذي أرسل رسول بالهدى : بيان الشرائع ، ودين الحق : بيان الحقائق ، فمَن جمع بينهما من أمته ظهر دينُه وطريقته ، وهذا هو الوليّ المحمدي ، أعني : ظاهره شريعة ، وباطنه حقيقة ، وما وصَف به سبحانه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هو وصْفُ الصوفية ، أهل التربية النبوية ، خصوصاً طريق الشاذلية ، حتى قال بعضهم : مَن حلف أن طريق الشاذلية عليها كانت بواطنُ الصحابة ما حنث . وقوله تعالى : { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } قال الورتجبي : أي : يطلبون مزيدَ كشف في الذات والدنو والوصالِ والبقاء مع بقائه بلا عتاب ولا حجاب ، وهذا محل الرضوان الأكبر . هـ . وقوله تعالى : { سيماهم في وجوههم } أي : نورهم في وجوههم ، لتوجهِهم نحو الحق ، فإنَّ مَن قَرُب من نور الحق ظهرت عليه أنورا المعرفة ، وجمالُها وبهاؤها ، ولو كان زنجيّاً أو حبشيّاً ، وفي ذلك قيل : @ وعلى العارفين أيضاً بهاءُ وعليهم من المحبّة نورُ @@ ويقال : السيما للعارفين ، والبَهجة للمحبين ، فالسيما هي الطمأنينة ، والرزانة ، والهيبة ، والوقار ، كل مَن رآهم بديهةً هابَهم ، ومَن خالطهم معرفةً أحبهم ، والبهجة : حسن السمت والهَدْي ، وغلبة الشوق ، والعشقُ ، واللهج بالذكر اللساني . والله تعالى أعلم . وروى السلمي عن عبد العزيز المكي : ليس السيما النُحولة والصفرة ، ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين ، يبدو من باطنهم على ظاهرهم ، يتبين ذلك للمؤمنين ، ولو كان ذلك في زنجي أو حبشي . وعن بعضهم : ترى على وجوههم هيئة لقُرب عهدِهم بمناجاة سيدهم . وقال ابن عطاء : ترى عليهم طِلع الأنوار لائحة . وقال الورتجبي : المؤمن وجهٌ لله بلا قفا ، مقبلاً عليه ، غير معرض عنه ، وذلك سيما المؤمن . هـ . وبالله التوفيق ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .