Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 14-15)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { قالت الأعرابُ } أي : بعض الأعراب { آمنّا } نزلت في نفر من بني أسد ، قدِموا المدينةَ في سنة جدبة ، فأَظْهَروا الإسلام ، ولم يُؤمنوا في السر ، وأفْسَدوا طُرق المدينة بالعذَرَات ، وأغْلَوا أسعارها ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نُقاتلك كما قتلك بنو فلان ، وهم يريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا ، ويمنّون بإسلامهم . { قل } لهم : { لم تؤمنوا } لم تُصدّقوا بقلوبكم { ولكن قولوا أسْلَمنا } فالإيمان هو التصديق بالقلب مع الإذعان به ، والإسلام هو الدخول في السِّلْم ، والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين ألا ترى إلى قوله : { ولمَّا يَدْخُلِ الإِيمانُ في قلوبكم } فهو يدل على أنَّ مجرد النطق بالشهادتين ليس بإيمان ، فتحصَّل أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة للقلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلبُ اللسانَ فهو إيمان ، وهذا من حيث اللغة ، وأما في الشرع فهما متلازمان ، فلا إسلام إلا بعد إيمان ، ولا إيمان إلا بعد النطق بالشهادة إلا لعذر . والتعبير بـ " لمّا " يدل على أن الإيمان متوقَّع من بعضهم وقد وقع . فإن قلت : مقتضى نظم الكلام أن يقول : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ، أو : قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم ؟ قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً ، فقيل : قل لم تؤمنوا ، مع حسن أدب ، فلم يقل : كذبتم صريحاً ، ووضع " لم تؤمنوا " الذي هو نفس ما ادَّعوا إثباته موضعه ، واستغنى بقوله : { لم تؤمنوا } عن أن يقال : لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ليكون قولهم خارجاً مخرج الزعم والدعوى ، كما كان قولهم : " آمنا " كذلك ، ولو قيل : ولكن أسلمتم لكان كالتسليم ، والاعتداد بقولهم ، وهو غير معتدّ به . وليس قوله : { ولمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم } تكريراً لمعنى قوله : { لم تؤمنوا } فإنّ فائدة قوله : { لم تؤمنوا } تكذيب دعواهم ، وقوله : { ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم } توقيت لما أُمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم : ولكن قولوا أسلمنا حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في " قولوا " . قاله النسفي . { وإِن تُطيعوا اللّهَ ورسولَه } بالإخلاص وترك النفاق { لا يَلِتْكُم من أعمالكم شيئاً } من أجورها . يقال : ألَت يألِتُ ، وألات يُليت ، ولات يلِيت ، بمعنى ، وهو النقص ، { إِنَّ اللّهَ غفور } لما فرط من الذنوب ، { رحيمٌ } يستر العيوب . { إِنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسولِه ثم لم يرتابوا } لم يَشُكُّوا ، من : ارتاب ، مضارع رابه : إذا أوقعه في الشك والتُهمة ، والمعنى : أنهم آمنوا ثم لم يقع في إيمانهم شك فيما آمنوا ، ولا اتهام لمَن صدّقوه ، ولمَا كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أُفرد بالذكر بعد تقدُّم الإيمان ، تنبيهاً على عُلو مكانه ، وعُطف على الإيمان بثمّ إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضّاً جديداً . { وجاهدوا بأموالهم وأنفسِهم في سبيل الله } أي : جاهَدوا ما ينبغي جهاده في الكفار والأنفس والهوى ، بالإعانة بأموالهم ، والمباشرة بأنفسهم في طلب رضى الله : { أولئك هم الصادقون } أي : الذي صدقوا في قلوبهم : آمنا ، لم يُكذِّبوا كما كذَّب أعرابُ بني أسد بل إيمانهم إيمان صِدق وحق . والله تعالى أعلم . الإشارة : مذهب الصوفية : أن العمل إذا كان حدّه الجوارح الظاهرة يُسمى مقام الإسلام ، وإذا انتقل لتصفية البواطن بالرياضة والمجاهدة يُسمى مقام الإيمان ، وإذا فتح على العبد بأسرار الحقيقة يُسمى مقام الإحسان ، وقد جعل الساحلي مقامَ الإسلام مُركّباً من ثلاثة : التوبة والتقوى والاستقامة ، والإيمانَ مُركباً من الإخلاص والصدق والطمأنينة ، والإحسانَ مُركّباً من المراقبة والمشاهدة والمعرفة ، ولكلٍّ زمان ورجال تربية واصطلاح في السير ، والمقصد واحد ، وهو المعرفة العيانية . قال القشيري : الإيمان هو حياة القلوب ، والقلوب لا تحيا إلا بعد ذَبْح النفوس ، ولنفوس لا تموت ولكنها تغيب . هـ . أي : المقصود بقتل النفوس : هو الغيبة عنها في نور التجلِّي ، فإذا وقع الفناء في شهود الحق عن شهود الخلق فلا مجاهدة . وقال القشيري في مختصره : { قالت الأعراب آمنّا … } الخ ، يُشير إلى أنّ حقيقة الإيمان ليست مما يتناول باللسان ، بل هو نور يدخل القلوب ، إذا شرح الله صدر العبد للإسلام كما قال تعالى : { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] ، وقال عليه السلام في صفة ذلك النور : " إنّ النور إذا وقع في القلب انفسح له واتسع " ، قالوا : يا رسول الله هل لذلك النور من علامة ؟ قال : " بلى التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت . قبل نزوله " لهذا قال تعالى { ولمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم } أي : نور الإيمان . هـ . { وإن تطيعوا الله ورسوله } في الأوامر والنواهي بعد ذبح النفوس بسيف الصدق { لا يَلِتكم من أعمالكم شيئاً } بل كل ما تتقربون به إلى الله من مجاهدة النفوس ترون جزاءه عاجلاً ، من كشف غطاء وحلاوة شهود ، إن الله غفور لمَن وقع له فتور ، رحيم بمَن وقع منه نهوض ، { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله } وشاهَدوا أنواره وأسراره ، { ورسولِهِ } حيث عرفوا حقيقته النورانية الأولية ، { ثم لم يرتابوا } لم يخطر على بالهم خواطر سوء ، ولا شكوك فيما وعد الله من الرزق وغيره لأنَّ حجاب نفوسهم قد زال عنهم ، فصار الغيب شهادة ، والخبر عياناً ، والتعبير بـ " ثم " يقتضي تأخُّر تربية اليقين شيئاً فشيئاً حتى يحصل التمكين في مقامات اليقين ، مع التمكين في مقام الشهود والعيان . ثم ذكر سبب إزاحة الشكوك عنهم بقوله : { وجاهَدوا بأموالهم } حيث بذلوها لله { وأنفسِهم } حيث جاهدوها في طلب الله { أولئك هم الصادقون } في طلب الحق ، فظفروا بما أمّلوا ، وربحوا فيما به تجروا . جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه . ثم ردّ عليهم مَنْ مَنَّ على الله بدينه ، فقال : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ } .