Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 49, Ayat: 1-3)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } تصدير الخطاب بالنداء ، تنبيهُ المخاطبين على أنَّ في حيّزه أمر خطير يستدعي اعتنائهم بشأنه ، وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته ، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم ، والإيذان بأنه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به ، { لا تُقدِّموا } أي : لا تفعلوا التقديم ، على ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلقه بأمرٍ من الأمور ، على طريقة قولهم : فلان يعطي ويمنع ، أو : لا تُقدّموا أموراً من الأمور ، على حذف المفعول ، للعموم ، أو : يكون التقديم بمعنى التقدُّم ، من " قدّم " اللازم ، ومنه : مقدمة الجيش ، للجماعة المتقدَّمة ، ويؤيده قراءة مَن قرأ : لا تَقدَّموا بحذف أحدى التاءين ، أي : لا تتقدموا { بين يدي اللّهِ ورسولهِ } : لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به ، وحقيقة قولك : جلست بين يدي فلان : أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه ، فسُميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما ، توسعاً ، كما يُسمّى الشيء باسم غيره إذا جاوره . وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يُسمى تمثيلاً ، وفيه فائدة جليلة ، وهي : تصوير الهُجْنَةِ والشناعة فيما نُهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة . ويجوز أن يجري مجرى قولك : سرَّني زيد وحُسْنُ ماله ، فكذلك هنا المعنى : لا تُقدِّموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم : وفائدة هذا الأسلوب : الدلالة على قوة الاختصاص ، ولمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك ، وفي هذا تميهد لما نُقِم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته لأن مَن فضَّله الله بهذه الأَثْرة ، واختصه بهذا الاختصاص ، كان أدنى ما يجب له من التهيُّب والإجلال : إن لا يُرفع صوتٌ بين يديه ، ولا يُقطع أمر دونه ، فالتقدمُ عليه تَقَدمٌ على الله لأنه لا ينطلق عن الهوى ، فنبغي الاقتداء بالملائكة حيث قيل فيهم : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ … } [ الأنبياء : 27 ] الخ . قال عبد الله بن الزبير : قَدِمَ وفد من تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : لو أمَّرت عليهم القعقاع بن معبد ، وقال عمر : يا رسول الله بل أَمِّر الأقرعَ بن حابس فقال أبو بكر : ما أردتُ إلا خلافي ، وقال عمر : ما أردتُ خِلافَك ، وارتفعت أصواتهما ، فنزلت . فعلى هذا يكون المعنى : لا تُقَدِّموا وُلاةً ، والعموم أحسن كما تقدّم . وعبارة البخاري : " وقال مجاهد : لا تقُوموا لا تَفْتاتُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَقضي اللّهُ - عزّ وجل - على لسانه " . وعن الحسن : أن ناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة ، فنزلت ، فأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ، وعن عائشة : أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك . { واتقوا اللّهَ } في كل ما تأتون وتذرون من الأحوال والأفعال ، التي من جملتها ما نحن فيه ، { إِنَّ اللّهَ سميع } لأقوالكم { عليم } بأفعالكم ، فمن حقِّه أن يُتَّقى ويُراقَب . { يا أيها آمنوا لا ترفعوا أصواتَكم فوقَ صوتِ النبي } شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل ، وإعادة النداء مع قرب العهد للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه ، والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أي : لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدٍّ يبلغه صوته صلى الله عليه وسلم ، بل يكون كلامه عالياً لكلامكم ، وجهره باهراً لجهركم ، حتى تكون مزيّته عليكم لائحةً ، وسابقته لديكم واضحة . { ولا تجهروا له بالقول } إذا كلّمتموه { كجَهْرِ بعضِكم لبعضٍ } أي : جهراً كائناً كالجهر الجاري فيما بينكم ، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته ، واختاروا في مخاطبته القول اللين القريب من الهمس ، كما هو الدأب في مخاطبة المهابِ المُعظّم ، وحافظوا على مراعاة هيبة النبوة وجلالة مقدارها . وقيل : معنى : { لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } : لا تقولوا : يا محمد ، يا أحمد ، بل : يا رسول الله . يا نبي الله ، ولمّا نزلت هذه الآية ما كلّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر إلا كأخي السِّرار . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمَاس ، وكان في أذنيه وَقْر ، وكان جَهْوَريَّ الصوت ، وكان إذا تكلم رفع صوته ، وربما كان يكلّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيتأذّى من صوته . هـ . والصحيح ما تقدّم . وفي الآية أنهم لم يُنهوا عن الجهر مطلقاً ، وإنما نُهوا عن جهرٍ مخصوص ، أي : الجهر المنعوت بمماثلة ما اعتادوه فيما بينهم ، وهو الخلوّ عن مراعاة هيبة النبوة ، وجلالة مقدارها . وقوله : { أن تحبط أعمالُكم } مفعول من أجله ، أي : لا تجهروا خشية أن تحبط أعمالكم ، { وأنتم لا تشعرون } فإنَّ سوء الأدب ربنا يؤدي بصاحبه إلى العطب وهو لا يشعر . ولمّا نزلت الآية جلس ثابت بن قيس في بيته ولم يخرج ، فتَفقَّده صلى الله عليه وسلم ، فدعاه فسأله ، فقال : يا رسول الله لقد أُنزلت عليك هذه الآية ، وإني رجل جهير الصوت ، فأخاف أن يكون عملي قد حبط ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " لست هناك ، تعيش بخير ، وتموت بخير ، وإنك من أهل الجنة " . وأما ما يُروى عن الحسن : أنها نزلت في المنافقين ، الذي كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وسلم فقد قيل : محْمله : أنّ نهيهم مندرج تحت نهي المؤمنين بدليل النص . { إِنَّ الذين يَغُضُّون أصواتَهم عند رسول الله } أي : يخفضون أصواتهم في مجلسه ، تعظيماً له ، وانتهاءً عما عنه ، { أولئك الذين امتحن اللّهُ قلوبَهم للتقوى } أي : أخلصها وصفَّاها ، من قولهم : امتحن الذهب وفَتَنه : إذا أذابه ، وفي القاموس : محنَه ، كمنعه : اختبره ، كامتحنه ، ثم قال : وامتحن القول : نَظَرَ فيه ودبّره ، والله قلوبَهم : شرحها ووسّعها ، وفي الأساس : ومن المجاز : محنَ الأديمَ : مدّده حتى وسعه ، وبه فسّر قوله تعالى : { امتحن اللّهُ قلوبَهم للتقوى } أي : شرحها ووسعها ، { لهم مغفرة وأجرٌ عظيمٌ } أي : مغفرة لذنوبهم ، وأجر عظيم : نعيم الجنان . الإشارة : على هذه الآية والتي بعدها اعتمد الصوفية فيما دوَّنوه من آداب المريد مع الشيخ ، وهي كثيرة أُفردت بالتأليف ، وقد جمع شيخنا البوزيدي الحسني رضي الله عنه كتاباً جليلاً جمع فيه من الآداب ما لم يُوجد في غيره ، فيجب على كل مريد طالب للوصول مطالعتُه والعملُ بما فيه . والذي يُؤخذ من الآية : أنه لا يتقدم بين يدي شيخه بالكلام ، لا سيما إذا سأله أحدٌ ، فمِن الفضول القبيح أن يسبق شيخَه بالجواب ، فإنَّ السائل لا يرضى بجواب غير الشيخ ، مع ما فيه من إظهار علمه ، وإشهار شأنه ، والتقدم على شيخه . ومن ذلك أيضاً : ألاَّ يقطع أمراً دون مشورته ، ما دام تحت الحجرية ، وألاَّ يتقدم أمامه في المشي إلا بإذنه ، وأن يغضّ صوته عند حضوره ، بل لا يتكلم إلا أن يأذن له في الكلام ، ويكون بخفض صوت وتعظيم . قلت : وما زالت أشياخنا تأمرنا بالتكلم عند المذاكرة إذ بالكلام تُعرف أحوال الرجال ، وسَمِعتُ شيخ شيخنا ، مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول : حُكّونا في المذاكرة ليظهر العلم ، وكونوا معنا كما قال القائل : حك لي نربل لك ، لا كما قال القائل : سَفِّجْ لي نعسل لك . هـ . لكن يكون بحثُه مع الشيخ على وجه الاسترشاد والاستعلام ، من غير معارضة ولا جدال ، وإلا وإلا فالسكوت أسلم . قال القشيري : { لا تُقدّموا بين يَدي الله ورسوله } لا تعملوا في أمر الدين من ذات أنفسكم شيئاً ، وقُفوا حيثما وُقِفْتم ، وافعلوا ما به أُمِرْتُم ، أي : اعملوا بالشرع لا بالطبع في طلب الحق ، وكونوا من أصحاب الاقتداء والاتباع ، لا من أرباب الابتداء أو الابتداع . وقال في قوله تعالى : { لا ترفعوا أصواتَكم … } الآية ، يُشير إلى أنه من شرط المؤمن : ألا يرى رأيَه وعقلَه واختيارَه فوق رأي النبي والشيخ ، ويكون مستسلماً لرأيه ، ويحفظ الأدب في خدمته وصحبته ، { ولا تجهرا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أي : لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض ، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل ، ولا تنظروا إليه بالعين التي تنظرون إلى أمثالكم ، وإنه لحُسْن خُلقه قد يُلاعبكم ، فلا تنبسطوا معه ، متاجسرين عليه بما يُعاشركم من خُلقه ، ولا تَبدأوه بحديث حتى يُفاتحكم ، أن تحبط أعمالكم بسوء أدبكم ، وأنتم لا تشعرون . إنَّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وعند شيخه أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، أي : انتزع عنها حبّ الشهوات ، وصفّاها من دنس سوءِ الأخلاق ، وتخلقت بمكارم الأخلاق ، حتى انسلختْ من عادات البشرية . هـ . وقال في القوت : الوقاية مقرونة بالنصرة فإذا تولاَّه نَصَره على أعدائه ، وأعْدى عدُوه نفْسُه ، فإذا نَصَره عليها ، أخرج الشهوة منها ، فامتحنَ قلبَه للتقوى ، ومحّض نفسَه ، فخلّصها من الهوى . هـ . ثم ذكر مَن لم يستعمل الأدب مع الحضرة النبوية ، فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ } .