Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 49, Ayat: 4-5)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ الذين يُنادونك من وراء الحجرات } من خارجها ، أو : من خلفها ، أو : من أمامها ، فالوراء : الجهةُ التي تُواري عنك الشخص تُظلّله من خلف أو من قُدّام ، و " مِن " لابتداء الغاية ، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان ، والحجرة : الرقعة من الأرض ، المحجورة بحائطٍ يحوط عليها ، فعْلة ، بمعنى مفعولة ، كالقُبْضَة ، والجمع : حُجُرات ، بضمتين ، وبفتح الجيم ، والمراد : حجرات النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان لكل امرأة حُجرة . نزلت في وفد بني تميم ، وكانوا سبعين ، وفيهم عينيةُ بن حِصنُ الفزاري ، والأقرعُ بن حابس ، وفَدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة ، وهو راقد ، فنادوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته ، وقالوا : اخرجْ إلينا يا محمدُ فإنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ ، وذمّنا شيْن ، فاستيقظ ، وخرج عليه السلام وهو يقول : " ذلكم الله الذي مدحُه زين ، وذمّه شين " ، فقالا : نحن قوم من بني تميم ، جئنا بشاعرنا وخطيبنا ، لنُشاعركَ ، ونُفاخرك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما بالشعر بُعثت ، ولا بالفخار أُمرت " ، ثم أمر صلى الله عليه وسلم خطيبهم فتكلّم ، ثم قال لثابت بن قيس بن شماس - وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم : قم ، فقام ، فخطب ، فأقحم خطيبَهم ، ثم قام شاب منهم ، فأنشأ يقول : @ نَحنُ الْكرامُ فَلاَ حَيٌّ يُعَادِلُنَا فينا الرُّؤوس وفينا يُقْسَمُ الرَّبعُ ونُطعِمُ النَّاسَ عِندَ الْقَحطِ كُلَّهمُ إنَّا كَذَلِكِ عِنْدَ الْفخرُ نَرْتَفعُ @@ فقال صلى الله عليه وسلم لحسّان : قم فأجبه ، فقال : @ إنَّ الذوائبَ من فِهْرٍ وإخوتهمْ قَدْ شَرَّعوا سُنَّةً للناس تُتبعُ يرضى بها كلُّ مَن كانت سريرتُه تَقوَى الإله وكلُّ الفخر يُصطنعُ @@ ثم قال الأقرع شعراً افتخر به ، فقال عليه السلام لحسّان : قم فأجبه ، فقال حسّان : @ بَنِي دَارِمٍ ، لاَ تَفْخُروا ، إِنَّ فَخْرَكُمْ يَعُودُ وَبالاً عِنْد ذِكْرِ الْمكَارِمِ هَبلْتُم ، عَليْنا تَفْخرُون وأَنْتُم لَنا خَوَلٌ من بَيْن ظِئْرٍ وخادِمِ @@ فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد كنتَ غنياً عن هذا يا أخا بني دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أن الناس قد نسوه " ، ثم قال الأقرعُ : تكلم خطيبُنا ، فكان خطيبهُم أحسن قِيلاً ، وتكلم شاعرُنا فكان شاعِرُهم أشعر . هـ . هذا ومناداتُهم من وراء الحجرات إما لأنهم أتَوْها حجرةً حجرة ، فنادوه صلى الله عليه وسلم من ورائها ، أو : بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له صلى الله عليه وسلم ، أو : نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها ، ولكنها جُمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : الذي ناداه عُيينةُ بن حصن والأقرعُ ، وإنما أُسند إلى جميعهم لأنهم راضون بذلك وأَمروا به . { أكثرُهم لا يعقلون } إذ لو كان لهم عقل لَمَا تجاسروا على هذه العظيمة من سوء الأدب . { ولو أنهم صبروا } أي : ولو تحقق صبرُهم وانتظارُهم ، فمحل { أنهم صبروا } رفعٌ على الفاعلية لأنَّ " أنْ " تسبك بالمصدر ، لكنها تفيد التحقق والثبوت ، للفرق بين قولك : بلغني قيامك ، وبلغني أنك قائم ، و " حتى " تُفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مُغَيّاً بخروجه عليه السلام ، فإنها مختصة بالغايات . والصبرُ . حبسُ النفس على أن تُنازع إلى هواها وقيل : " الصبر مرٌّ ، لا يتجرعه إلا حُرٌّ " . أي : لو تأنوا حتى تخرج إليهم بلا مناداة لكان الصبرُ خيراً لهم من الاستعجال ، لِما فيه من رعاية حسن الأدب ، وتعظيمِ الرسول ، الموجبتين للثناء والثواب ، والإسعاف بالمسؤول إذ رُوي أنهم وفدوا شافعين في أسارى بني العَنبر ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث سريةً إلى حي بني العنبر ، وأمّرَ عليهم عُيينة بن حِصن ، فهربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عُيينة ، ثم قَدِم رجالُهم يَفْدون الذراري ، فلما رأتهم الذراريُّ أجهشوا إلى آبائهم يَبْكون ، فعَجلوا أن يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فنادَوْه حتى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم ، فأطلق النصف وفادى النصف ، { والله غفور رحيم } بليغ المغفرة والرحمة واسعهما ، فلن يضيق ساحتُهما عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا . الإشارة : من آداب المريد ألاَّ يُوقظ شيخَه من نومه ، ولو بقي ألف سنة ينتظره ، وألاَّ يطلب خروجَه إليه حتى يخرجَ بنفسه ، وألاَّ يقف قُبالة باب حجرته لئلا يرى بعض محارمه . ومن آدابه أيضاً : ألا يبيت معه في مسكن واحد ، وألا يأكل معه ، إلا أن يعزم عليه ، وألا يجلس على فراشِه أو سجّادته إلا بأمره ، وإذا تعارض الأمر والأدب ، فهل يُقدّم الأمر أو الأدب ؟ خلاف ، وقد تقدم في صلاح الحديبية : أن سيدنا عليّاً - كرّم الله وجهه - قدَّم الأدب على الأمر ، حين قال له صلى الله عليه وسلم : " امح اسم رسول الله من الصحيفة " ، فأبى ، وقال : " والله لا أمحوا أبداً " والله تعالى أعلم . ومن جملة الأدب : التأني في الأمور وعدمُ العَجَلةِ ، كما أبان ذلك بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } .