Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 9-10)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وإِن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } أي : تقاتلوا . والجمعُ باعتبار المعنى لأن كلّ طائفة جمعٌ كقوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ } [ الحج : 19 ] ، { فأصْلِحوا بينهما } بالنصح والدعاء إلى حُكم الله تعالى ، { فإِن بَغَتْ إِحداهما على الأخرى } ولم تتأثر بالنصحية { فقاتِلوا التي تبغي حتى تفيءَ } ترجع { إِلى أمر الله } إلى حُكمه ، أو : إلى ما أمر به من الصُلح وزوال الشحناء ، والفيء : الرجوع ، وقد يُسمى به الظل والغنيمة ، لأن الظل يرجعُ بعد نسخ الشمس ، والغنيمة ترجع من أيدي الكفار إلى المسلمين . وحكم الفئة الباغية : وجوب قتالها ، فإذا كفَّت عن القتال أيديَها تُركت . قال ابن جزي : وأَمَرَ اللّهُ في هذه الآية بقتال الفئة الباغية وذلك إذا تبيَّن أنها باغية ، فأما الفتنُ التي تقع بين المسلمين فاختلف العلماءُ فيها على قولين : أحدهما : أنه لا يجوز النهوض ، في شيء منها ولا القتال ، وهذا مذهب سعد بن أبي وقاص ، وأبي ذر ، وجماعة من الصحابة ، وحجتُهم حديث : " قتال المسلم كفر " ، وحديث : الأمر بكسر السيوف في الفتن ، والقولُ الثاني : النهوضُ فيها واجبٌ ، لتُكفَ الفئةُ الباغية ، وهذا مذهب عليّ ، وعائشة ، وطلحة ، وأكثر الصحابة ، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء ، وحجتُهُم هذه الآية . فإذا فرّعنا على القول الأول ، فإن دخل داخلٌ على مَن اعتزل الفرقتين منزلَه يريد نفسَه أو مالَه فعليه دفعُه ، وإن أدّى ذلك إلى قتله لحديث : " مَن قُتل دون نفسه وماله فهو شهيد " ، وإذا فرّعنا على الثاني ، فاختُلف مع مَن يكون النهوضُ من الفئتين ؟ فقيل : مع السواد الأعظم ، وقيل : مع العلماء ، وقيل : مع مَن يُرى أنّ الحق معه . هـ . قلت : إذا وقعت الحرب بين القبائل فمَن تعدَّت تُربتَها إلى تربة غيرها فهي باغيةٌ ، يجب كفُّها ، وإذا وقعت بين الحدود فالمشهور : النهوض ، ثم يقع السؤال عن السبب فمَن ظهر ظُلمه وَجَب كفّه ، فإن أشكل الأمر ، فالأمساك عن القتال أسلم . والله تعالى أعلم . { فإِن فاءتْ } عن البغي ، وأقلعت عن القتال { فأَصْلِحوا بينهما بالعدل } بفصل ما بينهما على حُكمِ الله تعالى ، ولا تكتفوا بمجرد متاركتِهما لئلا يكون بينهما قتال في وقتٍ آخر ، وتقييدُ الإصلاح بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة ، وقد أكد ذلك بقوله : { وأَقْسِطوا } أي : واعدلوا في كل ما تأتون وما تَذرون ، { إِنَّ الله يحب المُقْسِطِين } العادلين ، فيُجازيهم أحسنَ الجزاء ، والقَسط بالفتح : الجَور ، وبالكسر : العدلُ ، والفعل من الأول : قَسط فهو قاسط : جارَ ، ومن الثاني : أقسط فهو مقسط : عَدل ، وهمزتُه للسلب ، أي : أزل القسط ، أي : الجور . والآية نزلت في قتالٍ حدث بين الأوس والخزرج ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يعود سعدَ بنَ عُبادة ، فمرّ بمجلسٍ من الأنصار ، فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين ، فوقف صلى الله عليه وسلم على المجلس ، ووعظ وذكَّر ، فقال عبد الله بن أُبي : يا هذا ، لا تؤذنا في مجالسنا ، واجلس في موضعك ، فمَن جاءك فاقصص عليه ، فقال عبد الله بنُ رواحة : بل أغثنا يا رسول الله وذكِّرنا ، فارتفعت أصواتهما ، وتضاربوا بالنعال ، فنزلت الآية ، وقيل غير ذلك . وفي الآية دليل على أنَّ لا يخرج ببغيه عن الإيمان ، وأنه يجب نُصرة المظلوم ، وعلى فضيلة الإصلاح بين الناس . { إِنما المؤمنون إِخوةٌ } أي : منتسبون إلى أصل واحدٍ ، وهو الإيمان المُوجب للحياة الأبدية ، فيجب الاجتهاد في التآلف بينهما لتحقُّق الأخوة . والفاء في قوله : { فأصْلِحوا بين أخوَيكم } للإيذان بأنّ الأخوة الدينية موجبة للإصلاح . ووضع المظهر مقامَ المضمر مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه ، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأَولى لتضاعف الفتنة والفساد فيه . وقيل : المراد بالأخَويْن : الأوس والخزرج . وقرأ يعقوب : " إخوتكم " بالجمع . { واتقوا الله } فيما تأتون وتذرون ، التي من جملتها : الإصلاحُ بين الناس { لعلكم تُرحمون } راجين أن تُرحموا على تقواكم ، لأن التقوى تحملكم على التواصل والائتلاف ، وهو سبب نزول الرحمة . الإشارة : النفسُ الطبيعية والروح متقابلان ، والحرب بينهما سِجال ، فالنفس تريد السقوط إلى أرض الحظوظ والبقاء مع عوائدها ، والروح تريد العروج إلى سماء المعارف وحضرة الأسرار ، وبينما اتصال والتصاقٌ ، فإن غلَبت النفسُ هبطت بالروح إلى الحضيض الأسفل ، ومنعتها من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، وإن غلبت الروح ، عرجت بالنفس إلى أعلى عليين ، بعد تزكيتها وتصفيتها ، فتكسوها حُلةَ الروحانية ، وينكشِف لها من العلوم والأسرار ما كان للروح ، ولكلٍّ جندٌ تقابل به ، فيقال من طريق الإشارة : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصْلِحوا بينهما ، بأن تؤخَذَ النفسُ بالسياسة شيئاً فشيئاً ، يُنقص من حظوظها شيئاً فشيئاً ، حتى تتزكى وتعالَجَ الروحُ لدخول الحضرة ، وعكوف الهم في الذكر شيئاً فشيئاً ، حتى تدخل الحضرة وهي لا تشعر ، ثم تشعُر ويقع الاستغراق . وأما إن قُطِعت النفسً عن جميع مألوفاتها مرةً واحدة ، أو كُلفت الروحَ الحضورَ في الذكر على الدوام مرةً واحدة ، أفسدتهما ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " ادخلوا في هذا الدين برفق ، فما شاد أحدكم الدين إلا غَلَبه " وقال أيضاً : " لا يكن أحدكم كالمُنْبتِّ ، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتِلوا التي تبغي ، بأن تُردع النفس إن طغت ، وتأخذ لجام الروح إن هاجت ، حتى تفيء إلى أمر الله ، وهو الاعتدال ، فيعطي كلّ ذي حق حقه ، ويُوفي كل ذي قسط قسطه . وقوله تعالى : { إِنما المؤمنون إخوة } قال الورتجبي : افهَم أيها العاقل أن الله سبحانه خلق الأرواحَ المقدسةَ من عالَم الملكوت ، وألبسها أنوارَ الجبروت فمواردُها من قُربه مختلفة ، لكن عينها واحدة ، وخلق هياكلَها وأشباحَها من تربة الأرض التي أخلصها من جملتها ، وزيّنها بنور قدرته ، ونفخ فيها تلك الأرواح ، وجعل من الأرواح والأجسام النفوس الأمّارة التي ليست من قبيل الأرواح ، ولا من قبيل الأجسام ، وجعلها مخالفة للأرواح ومساكِنها ، فأرسل الله عليها جندَ العقول ، يدفع شَرَّها ، فإذا امتحن الله عبادَه المؤمنين هيَّج نفوسهم الأمّارة ليُظهر حقائق درجاتهم من الإيمان ، فأَمَرهم أن يُعينوا العقلَ والروحَ والقلبَ على النفس حتى تنهزم لأن المؤمنين كالبنيان يشُد بعضُهم بعضاً . ثم بيَّن أنّ في الإصلاح بين الإخوان الفلاح والنجاة ، إذا كان مقروناً بالتقوى التي تقدسُ البواطن من البغي والحسد بقوله : { واتقوا الله لعلكم تُرحمون } فإذا فهِمت ما ذكرتُ علمتَ أنْ حقيقة الأخوة مصدر الاتحاد ، فإنهم كنفسٍ واحدة لأن مصادرهم مصدر واحد ، وهو آدم ، ومصدر روح آدم نورُ الملكوت ، ومصدرُ جسمه تربة الجنة في بعض الأقوال . لذلك يصعد الروحُ إلى الملكوت ، والجسم إلى الجنة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " كل شيء يرجع إلى أصل " هـ . قلت : صعود الروح إلى الملكوت هو شهود معاني الأسرار في دار الجنة ، ونزول الجسم إلى الجنة هو تمتُّعه بنعيم حسها في عالم الأشباح ، وكل ذلك بعد الموت ، وأحسنُ العبارة أن يُقال : لأن مصادرَهم مصدر واحد ، وهو بحر الجبروت ، المتدفق بأنوار الملكوت ، والوجود بأَسْره موجةٌ من بحر الجبروت . ثم قال الورتجبي : قال أبو بكر النقاش : سألتُ الجنيد عن الأخ الحقيقي ؟ فقال : هو أنت في الحقيقة ، غير أنه غيرك في الهيكل . قلت : يعني أن الناس في الحقيقة ذاتٌ واحدة ، وما افترقوا إلا في الهياكل ، فكلهم أخوة . وقال أبو عثمان الحيري : أُخُوة الدين أثبت من أخوة النسب ، فإن أخوة النسب تُقطع بمخالفة الدين ، وأخوة الدين لا تقطع بمخالفة النسب . هـ . وتقدم لنا شروط الأخوة في قوله تعالى : { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذ … } [ الزخرف : 67 ] الآية . وقال القشيري هنا : ومن حق الأخوة ألا تُلجأه إلى الاعتذار ، بل تُبسط عذرَه أي : تذكر عذره قبل أن يعتذر ، فإن أُشكل عليك وجهه عُدت بالملامة على نفسك في خفاء عذره عليك ، وتتوب عليه إذا أذنب ، وتعوده إذا مرض ، وإذا أشار عليك بشيء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة ، كما أنشدوا : @ إِذا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسأَلُوا مَنْ دَعَاهُم لأيَّةِ حَرْبٍ أم لأيِّ مكَان @@ ومن أَوْكد شروطها : التعظيم ، كما أبان ذلك بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ } .