Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 6-8)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا إِن جاءكم فاسق بنبأٍ } نزلت في الوليد بن عُبة بن أبي مُعَيْط ، وكان من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصْطلِق ، بعد الوقعة مصدِّقاً ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فخرجوا يتلقّونه ، تعظيماً النبي صلى الله عليه وسلم ، فظنّ أنهم مقاتلوه فرجع ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قد ارتدُّوا ومنعوا الزكاة ، فَهمَّ صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم ، ثم أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه أنهم إنما خرجوا يتلقّونه تكرمةً فاتهمهم النبي صلى الله عليه وسلم وبعث إليهم " خالد بن الوليد " خفيةً مع عسكر ، وأمره أن يُخفي عليهم قدومَه ، ويتطلعَ عليهم ، فإن رأى ما يدلّ على إيمانهم أخذ زكاتهم ورجع ، وإن رأى غير ذلك استَعمل فيهم ما يُستعمل في الكفار ، فسمع خالدُ فيهم آذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ صدقاتهم ، ولم يرَ منهم إلا الطاعة ، فنزلت الآية . وسُمِّي الوليد فاسقاً لعدم تَثَبُّته فخرج بذلك عن كمال الطاعة ، وفي تسميته بذلك زجرٌ لغيره ، وترغيبٌ له في التوبة ، والله تعالى أعلم بغيبه ، حتى قال بعضهم : إنها من المتشابه ، لِمَا ثبت من تحقُّق إيمان الوليد . وقال أبو عمر في الاستيعاب : لا يصح أن الآية نزلت في قضية الوليد لأنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من ثمانية أعوام ، أو من عشرة ، فكيف يبعثه رسولاً ؟ ! هـ . قلت : لا غرابةَ فيه ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يُؤَمِّر أسامةَ بن زيد على جيش ، فيه أبو بكر وعمر ، مع حداثة سِنِّه ، كما في البخاري وغيره . وفي تنكير فاسق و نبأ شِياعٌ في الفُسَّاق والأنباء ، أي : إذا جاءكم فاسقٌ أيّ فاسقٍ كان ، بأيِّ خبر { فتبَيَّنوا } أي : فتوقفوا فيه ، وتطلَّبوا بيان الأمر وانكشافَ الحقيقة ، ولا تعتمدوا قولَ مَن لا يتحرّى الصدق ، ولا يتحامى الكذب ، الذي هو نوع من الفسوق . وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد العَدل لأنا لو توقفنا في خبره لسوّينا بينه وبين الفاسق ، ولخلا التخصيص به عن الفائدة . وقرأ الأخوان : " فثبتوا " والتثبُّت والتبيُّن متقاربان ، وهما : طلبُ الثبات والبيان والتعرُّف . { أن تُصيبوا } أي : لئلا تصيبوا { قوماً بجهالةٍ } حال ، أي : جاهلين بحقيقة الأمر وكُنه القصة . { فتُصْبِحوا } فتصيروا { على ما فعلتم نادمين } مغتمِّين على ما فعلتم ، متمنين أنه لم يقع ، والندم : ضرب من الغلم وهو أن يَغتم على ما وقع ، يتمنى أنه لم يقع ، وهو غم يصحبُ الإنسان صحبةً لها دوامٌ في الجملة . { واعلموا انَّ فيكم رسولَ الله } فلا تكْذبوا ، فإن الله يُخبره ، فيهتك سر الكاذب ، أو : فارجعوا إليه واطلبوا رأيه ، ثم استأنف بقوله : { لو يُطيعُكم في كثير من الأمر لعَنتُّم } لوقعتم في العنت وهو الجهد والهلاك . والتعبيرُ بالمضارع للدلالة على أنّ عَنَتَهم إنما يلزم في استمرار طاعته لهم في كل ما يعرض من الأمور ، وأما طاعته في بعض الأمور استئلافاً لهم ، فلا . انظر أبا السعود . وهذا يدل على أنَّ بعض المؤمنين زيّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق تصديقاً لقول الوليد ، وأنَّ بعضهم كانوا يتصوّنون ويتحرّجون الوقوعَ بهم تأنياً وتثُبتاً في الأمر ، وهم الذين استثناهم الله بقوله : { ولكنَّ الله حَبَّبَ إِليكم الإِيمانَ } وأسنده إلى الكل تنبيهاً على أن أكثرهم تحرّجوا الوقوعَ بهم وتأنّوا ، وقيل : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، وهو تجديدٌ للخطاب وتوجيه إلى بعضهم بطريق الاستدراك ، بياناً لِبراءَتهم عن أوصاف الأولين وإحماداً لأفعالهم ، أي : ولكنه - تعالى - جعل الإيمان محبوباً لديكم { وزيَّنه في قلوبكم } حتى رسخ فيها ، ولذلك صدر منكم ما يليق به من التثبُّت والتحرُّج ، وحاصل الآية على هذا : واعلموا أنَّ فيكم رسول الله ، فلا تُقِرُّون معه على خطأ ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم ، ولكنَّ الله حبّب إلى بعضكم الإيمان ، فلا يأمر إلا بما هو صواب من التأنِّي وعدم العجلة . قلت : والأحسن في معنى الاستدراك : أنَّ التقدير : لو يُطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم ، ولكن الله لا يُقره على طاعتكم بل ينزل عليه الوحي بما فيه صلاحُكم وراحتكُم لأنَّ الله حبَّبَ إليكم الإيمان وزيَّنيه في قلوبكم ، فلا يسلك بكم إلا ما يليق بشأنكم من الحِفظ والعصمة . ثم قال : { وكَرَّهِ إِليكم الكفرَ والفُسوق والعصيان } ولذلك تحرّجتم عمّا لا يليق مما لا خير فيه مما يؤدي إلى عَنَتِكم ، قال ابن عرفة : العطف في هذه الآية تَدَلِّي فالكفر أشدُّها ، والفسوق دونه ، والعصيان أخفّ لصدقه على ترك المندوبات ، حسبنا نقل ذلك البغداديون وحمَلوا عليه ، ومَن لم يُجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم . هـ . { أولئك هم الراشدون } أي : أولئك المستَثون ، أو : المتَّصِفون بالإيمان ، المزيّن في قلوبهم ، هم السالكون على طريق السّوى ، الموصل إلى الحق ، أي : أصابوا طريقَ الحق ، ولم يَميلوا عن الاستقامة . والرشدُ : الاستقامةُ على طريق الحق مع تصلُّبٍ فيه ، من : الرشادة ، وهي الصخرة الصماء . { فضلاً من الله ونِعمةً } أي : إفضالاً من الله وإنعاماً عليهم مفعولٌ من أجله ، أي : حبَّب وكرّه للفضل والنعمة عليهم { والله عليمٌ } مبالغ في العلم ، فيعلم أحوالَ المؤمنين وما بينهم من التفاضل ، { حكيمٌ } يفعل ما يفعل الحكمةٍ بالغة . الإشارة : إن جاءكم خاطرُ سوء بنبأ سوءٍ فتبيّنوا وتثبّتوا ، ولا تُبادروا بإظهاره ، خشية أن تُصيبوا قوماً بجهالة ، فتظنُّوا بهم السوء ، وتقعوا في الغيبة ، فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين ، فالمنافق قلبه على طرَف لسانه ، إذا خطر فيه شيء نطق به ، فهذا هالك ، والمؤمن لسانه من رواء قلبه ، إذا خطر شيءٌ نظر فيه ، ووَزَنه بميزان الشرع ، فإن كان فيه مصلحة نطق به ، وإلا ردَّه وكتمه ، فالواجبُ : وزن الخواطر بالقسطاس المستقيم ، فلا يُظهر منها إلا ما يعود عليه منفعته . { واعملوا أن فيكم رسولَ الله } قد بَيَّن لكم ما تفعلون وما تذرون ، ظاهراً وباطناً ، ومَن اتصل بخليفة الرسول ، وهو الشيخ حكّمه على نفسه ، فإن خطر في قلبه شيءٌ يهِمُّ أمرُه عَرَضه عليه ، والشيخ ينظر بعين البصيرة ، لو يُطيعكم في كثيرٍ من أمركم التي تعزمون عليها لَعَنِتُّم ، ولكنَّ الله حبب إليكم الإيمانَ ، وزيَّنه في قلوبكم ، فتَستمعُون لما يأمركم به ، وتمتثلون أمره ، وكرَّه إليكم الكفر والفسوق الخروجَ عن أمره ونهيه ، والعصيان لما يأمرُكم به ، فلا تَرون إلا ما يسرّكم ، ويُفضي بكم إلى السهولة والراحة ، فضلاً من الله ونعمة ، فإنَّ السقوط على الشيخ إنما هو محض فضل وكرم ، فللّه الحمد وله الشكر دائماً سرمداً . وللقشيري إشارة أخرى ، قال : { إن جاءكم فاسق بنبأ } يشير إلى تسويلات النفوس الأمّارة بالسوء ، ومجيئها كل ساعة بنبأِ شهوةٍ من شهوات الدنيا ، فتبيّنوا ربحَها من خسرانها ، من قبل أن تُصيبوا قوماً من القلوب وصفائها بجهالة ، فإنَّ ما فيه شفاءُ النفوس وحياتها فيه مرضُ القلوب ومماتُها فتُصبحوا صباحَ القيامة على ما فعلتم نادمين ، واعملوا أن فيكم رسولَ الله ، يُشير إلى رسول الإلهام في أنفسكم ، يُلهمكم فجور نفوسكم وتقواها ، لو يُطيعكم في كثيرٍ من أمرِ النفس الأمّارة ، لَعَنِتُّم لوقعتم في الهلاك ، ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان بالإلهامات الربانية ، وزيَّنه في قلوبكم بقلم الكَرَم ، وكرَّه بنور نظر العناية إليكم الكفر ، والفسوق : هو ستر الحق والخروج إلى الباطل ، والعصيان ، وهو الأعراض عن طلب الحق ، أولئك هم الراشدون إلى الحق بإرشاد الحق ، فضلاً من الله ونعمةً منه ، يُنعم به على مَن شاء مِن عباده ، { والله عليم حكيم } . هـ . ثم أمر الراشدين المتقدمين بالإصلاح بين الناس ، إذ لا ينجح في الغالب إلا على أيديهم ، فقال : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } .