Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 44-44)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { للذين هادوا } : متعلق بيحكم ، أو بأنزلنا ، أو بهدى ونور ، و { الربانيون } : عطف على { النبيون } ، وهم العباد والزهاد منهم ، والأحبار : علماؤهم ، جمع حبر بكسر الحاء وفتحها ، وهو أشهر استعمالاً للفرق بينه وبين المداد ، و { بما استحفظوا } : سببية متعلق بيحكم ، أو بدل من { بها } والعائد إلى " ما " محذوف ، أي : استحفظوه . يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } أي : ما يهدي إلى إصلاح الظواهر من النواهي والأوامر ، و { نور } تستنير به السرائر ، وتشرق به القلوب والضمائر ، من الاعتقادات الصحيحة والعقائد الراجحة ، والعلوم الدينية والأسرار الربانية . { يحكم بها النبيون } الذين أتوا بعد موسى عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم { الذين أسلموا } إي : انقادوا بكليتهم إلى ربهم ، ولم تبق بقية لغير محبوبهم ، وفيه تنويه بشأن الإسلام وأهله ، وتعريض باليهود فإنهم بمعزل عن دين الأنبياء واقتفاء هديهم ، حيث لم يتصفوا به ، يحكم بها { للذين هادوا } وعليهم ، وهم اليهود ، { و } يحكم بها أيضًا { الربانيون والأحبار } أي : زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم ، { بما استُحفظوا من كتاب الله } أي : بسبب أمر الله تعالى لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف . { وكانوا عليه شهداء } أي : رقباء ، فلا يتركون من يُغيرها أو يحرفها ، ولما طال العهد عليهم حرفوا وغيروا ، بخلاف كتابنا ، حيث تولى حفظه الحق ربنا ، فلا يزال محفوظًا لفظًا ومعنى إلى قيام الساعة ، قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الّذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحِجر : 9 ] . فللَّه الحمد . ثم خاطب الحكام ، فقال : { فلا تخشوا الناس واخشون } أي : فلا تداهنوا في حكوماتكم خشية ظالم أو مراقبة كبير ، فكل كبير في جانب الحق صغير { ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلاً } أي : لا تستبدلوا بالحكم بالحق ثمنًا قليلاً كالرشوة والجاه ، { ومن لم يحكم بما أنزل الله } مستهينًا به ومنكرًا له { فأولئك هم الكافرون } لاستهانتهم به . قال ابن عباس : نزلت الثلاثة في اليهود ، الكافرون والظالمون والفاسقون ، وقد رُوِي في هذا أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالت جماعة : هي عامة ، فكل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم ، إلا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية ، وقال الشافعي : الكافرون في المسلمين ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى ، وهو أنسب لسياق الكلام ، والله تعالى أعلم . الإشارة : قد وصف الله تعالى القرآن بأعظم مما وصف به التوراة . قال تعالى : { قَدْ جَآءَكُم بُرْهَانٌ مِنّ رَّبِكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } [ النساء : 174 ] ، فجعل التوراة ظرفًا للهداية والنور ، وجعل القرآن نفس النور والهداية . وربانيو هذه الأمة : أولياؤها العارفون بالله ، الذين يُرَّبُّون الناس ويرشدونهم إلى معرفة الشهود والعيان ، وأحبارها : علماؤها . وقال الورتجبي : الرباني الذي نسب إلى الرب بالمعرفة والمحبة والتوحيد ، فإذا وصل إلى الحق بهذه المراتب ، واستقام في شهود جلاله وجماله ، صار متصفًا بصفات الله جل جلاله ـ ، حاملاً أنوار ذاته ، فإذا فنى عن نفسه وبقي بربه ، صار ربانيًا ، مثل الحديد في النار ، إذا لم يكن في النار كان مستعدًا لقبول النار ، فإذا وصل إلى النار واحمر ، صار ناريًّا ، هكذا شأن العارف ، فإذا كان منورًا بتجلي الرب ، صار ربانيًا نورانيًّا ملكوتيًّا جبروتيًّا ، كلامه من الرب إلى الرب مع الرب ، ثم قال : العارف مخاطب من الله في جميع أنفاسه ، وحركاته ، ينزل على قلبه من الله وحي الإلهام ، وربما يخاطبه بنفسه ، ويكلمه بكلامه ، ويحدثه بحديثه ، لقوله عليه الصلاة والسلام ـ : " إنَّ في أُمَتي محدَثين أو مُكَلَّمين وإِنَّ عُمَرِ مِنهُم " هـ . ثمَّ بيّن الحق تعالى ما كتب على بني إسرائيل في التوراة ، فقال : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } .