Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 54-56)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { من } : شرطية ، و { يرتد } : فعل الشرط ، فمن قرأه بالتفكيك فعلى الأصل ، ومن قرأه بالإدغام ففتحه تخفيفًا . وجملة { فسوف يأتي } : جواب ، والعائد من الجملة محذوف ، أي : فسوف يأتي الله بقوم مكانهم … الخ . و { أذلة } : نعت ثاني لقوم ، جمع ذليل ، وأتى به مع على لتضمنه معنى العطف والحنو ، و { لا يخافون } : عطف على يجاهدون ، وجملة : { وهم راكعون } : حال إن نزلت في عليّ رضي الله عنه ، أو عطف إن كانت عامة . يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } ويرجع عنه بعد الدخول فيه ، فسيأتي الله بقوم مكانهم { يحبهم } فيثبتهم على دينهم ، { ويحبونه } فيجاهدون من رجع عن دينه ، وهم أهل اليمن ، والأظهر أنهم أبو بكر الصدّيق وأصحابه ، الذين قاتلوا أهل الردة ، ويدل على ذلك الأوصاف التي وصفهم الله بها من الجد في قتالهم ، والعزم عليه ، التي كانت من أوصاف الصدّيق ، وكذلك قوله : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } فقد كان أبو بكر ضعيفًا في نفسه ، قويًا في ذات الله ، لم يخف في الله لومة لائم ، حين لامه بعض الصحابة في قتالهم . وفي الآية إخبار بالغيب قبل وقوعه ، فقد ارتد من العرب في أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق : بنو مدلج ، وكان رئيسهم الأسود العنسي ، تنبأ باليمن ، واستولى على بلادهم ، ثم قتله فيروز الديلمي ، ليلة قُبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من غدها ، وأخبر بموته الرسولُ عليه الصلاة والسلام فسُر المسلمون . وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب ، تنبأ باليمامة ، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمةَ رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد : فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ، فأجابه صلى الله عليه وسلم : " من مُحمَّدٍ رَسُول اللهِ إلى مسيلمةَ الكَذَّابِ ، أمَّا بَعدُ : فَإنَّ الأرض للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِن عِبَادِهِ والعَاقِبَة للمتّقِين " ، فحاربه أبو بكر بجند المسلمين ، وقتله وحشي قاتلُ حمزة ، وبنو أسد قوم طليحة ، تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقاتله ، فهرب إلى الشام ، ثم أسلم وحسن إسلامه . وفي عهد أبي بكر ، بنو فزارة قومِ عُيينة بن حصن ، وغطفان قوم قرة بن مسلمة ، وبنو سليم ، وبنو يربوع قوم مالك بن نَويرة ، وبعض تميم ، قوم سَجَاح المتنبئة زوجة مسيلمة ، وكندة قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين ، فكفى الله أمرهم على يديه . وفي مدة عمر رضي الله عنه غسان ، قوم جبلة بن الأيهم ، الذي ارتد من اللطمة . فهؤلاء جملة مَن ارتد من العرب . فأتى الله بقوم أحبهم وأحبوه ، فجاهدوهم حتى ردوهم إلى دينهم . ومحبة الله للعبد : توفيقه وعصمته وتقريبه من حضرته . ومحبة العبد لله : طاعته والتحرز من معصيته ، وسيأتي في الإشارة الكلام عليها . ثم وصفهم بقوله : { أذلة على المؤمنين } أي : عاطفين عليهم خافضين جناحهم لهم ، { أعزة على الكافرين } شداد متغالبين عليهم ، وهذا كقوله فيهم : { أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفَتْح : 29 ] ، { يجاهدون في سبيل الله } من ارتد عن دين الله ، { ولا يخافون لومة لائم } لصلابتهم في دين الله ، وفيه إشارة إلى خطأ من لام الصِّدِّيق في قتال أهل الردة ، وقالوا كيف تقاتل قومًا يقولون : لا إله إلا الله ؟ فقال : والله لنقاتلن مَن فَّرق بين الصلاة والزكاة فلم يلتفت إلى لومهم . { ذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء } ، الإشارة إلى ما خصهم الله به ، من المحبة والأخلاق الكريمة ، { والله واسع } الفضل والعطاء { عليم } بمن هو أهله . ولمّا نهى عن موالاة الكفار ذكر من هو أهل للموالاة فقال : { إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا } لم يقل : أولياؤكم بالجمع ، تنبيهًا على أن الولاية لله على الأصالة ، ولرسوله وللمؤمنين على التبع ، ثم وصفهم بقوله : { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } أي : خاضعون لله ، ولعباده متواضعون ، منقادون لأحكامه ، أو يتصدقون في حال ركوعهم في الصلاة ، حرصًا على الخير ومسارعة إليه ، قيل : نزلت في علي كرم الله وجهه سأله سائل وهو راكع في الصلاة ، فطَرح له خاتمه ، وقيل : عامة ، وذكر الركوع بعد الصلاة لأنه من أشرف أعمالها . { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا } ، أي يتخذهم أولياء ، { فإن حزب الله هم الغالبون } أي : فإنهم الغالبون ، ووضع الظاهر موضع المضمر ليكون كالبرهان عليه ، فكأنه قال : ومن يتول هؤلاء فهم حزب الله ، وحزب الله هم الغالبون ، وتنويهًا بذكرهم وتعظيمًا لشأنهم ، وتعريضًا بمن يوالي غير هؤلاء . فإنه حزب الشيطان ، وأصل الحزب : القوم يجتمعون لأمر حَزَبَهُم . قاله البيضاوي . الإشارة : محبة الحقّ تعالى لعبده سابقة على محبته له ، كما أن توبته عليه سابقة لتوبته ، قال تعالى : { يحبهم ويحبونه } ، { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } [ التّوبَة : 118 ] ، قال أبو يزيد رضي الله عنه : غلطت في ابتداء أمري في أربعة أشياء : توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه ، فلما انتهيت ، رأيت ذكره سبق ذكري ، ومعرفته تقدمت معرفتي ، ومحبته أقدم من محبتي ، وطلبه لي من قبل طلبي له . هـ . وفي الحِكَم : " أنت الذاكر من قبل الذاكرين ، وأنت البادىء بالإحسان من قبل توجه العابدين ، وأنت الجواد بالعطاء من قبل طلب الطالبين ، وأنت الوهاب ثم أنت لما وهبتنا من المستقرضين " . ومحبة الله لعبده : حفظه ورعايته ، وتقريبه واصطفاؤه لحضرته ، وقال القطب بن مشيش رضي الله عنه ـ : المحبة أخذة من الله قلبَ من أحب ، بما يكشف له من نور جماله ، وقدس كمال جلاله ، وشراب المحبة : مزج الأوصاف بالأوصاف ، والأخلاق بالأخلاق ، والأنوار بالأنوار ، والأسماء بالأسماء ، والنعت بالنعوت ، والأفعال بالأفعال . قلت : ومعنى ذلك : غيبة العبد في شهود الحق ، وهو مقام الفناء ، ثم قال رضي الله عنه : والشراب أي : الشرب سقي القلوب والأوصال والعروق من هذا الشراب ، حتى يسكر ، ويكون الشرب بالتدريب بعد التدريب والتهذيب ، أي يكون شرب الخمرة شيئًا فشيئًا ، ووقتًا فوقتًا ، حتى يتمكن من شهود المعاني بلا فترة ، فذلك الرّي ، وذلك بعد كمال التهذيب ، فيسقى كل على قدره ، فمنهم من يسقي بغير واسطة ، والله سبحانه يتولى ذلك منه ، قلت : وهو نادر ، والغالب عليه الانحراف ، ومنهم من يسقي من جهة الوسائط ، كالملائكة والعلماء والأكابر من المقربين ، قلت : قوله : كالملائكة … تمثيل للوسائط ، فالملائكة للأنبياء ، والعلماء بالله وأكابر المقربين لغيرهم ، ثم قال : فمنهم من يسكر بشهود الكأس ، ولو لم يذق بعدُ شيئًا ، فما ظنك بعدُ بالذوق ، وبعدُ بالشرب ، وبعدُ بالري ، وبعدُ بالسكر بالمشروب ؟ ! ثم الصحو بعد ذلك على مقادير شتى ، كما أن السكر أيضًا كذلك . انظر بقية كلامه مع شرحه في شرحنا لخمرية ابن الفارض . وقال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه : المحبة لها ثلاث مراتب : بداية ووسط ونهاية فبدايتها لأهل الخدمة ، كالعباد والزهاد والصالحين والعلماء المجتهدين . ووسطها لأهل الأحوال ، الذين غلب عليهم الشوق حتى صدرت منهم شطحات ورقصات وأحوال غريبة ربما ينكرها أهل ظاهر الشريعة ، فمنهم من يغلب عليه الجذب حتى يصطلم ، ومنهم من يبقى معه شيء من الصحو ، وهؤلاء تظهر عليهم كرامات وخوارق العادات ، ونهايتها لأهل العرفان ، أهل مقام الشهود والعيان ، الذين شربوها من يد الوسائط وسكروا بها ، وصحوا . هـ . بالمعنى . وفي الورتجبي ما حاصله : أن محبتهم بعد المشاهدة ، وإلا لم تكن محبة حقيقة لان محبة الآلاء والنعماء معلولة ، ولا كذلك هذه ، لأن من رآه عشقه ، وكيف يرجع عنه من كان مسلوب القلب بعشقه لجماله ؟ ولذلك لم يرتدوا عن دينهم الذي هو المحبة . هـ . وللمحبة علامات وثمرات ، ذكر بعضَها الحق تعالى بقوله : { أذلة على المؤمنين } أي : متواضعين عاطفين عليهم ، { أعزة على الكافرين } ، أي : القواطع ، غالبين عليهم ، { يجاهدون في سبيل الله } أي : أنفسهم وأهواءهم ، { ولا يخافون لومة لائم } إذ لا يراقبون سوى المحبوب ، وليس للمحبة طريق إلا محض الفضل والكرم . { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } لكن صحبة المحبوبين عند الله من أسبابها العادية ، وهم أولياء الله الذين هم حزب الله ، فولايتهم والقرب منهم من أسباب القرب والمحبة ، ومن موجبات النظر والغلبة { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } . ثم نهى عن صحبة ضدهم ، فقال : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ } .