Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 1-11)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { قۤ } أيها القريب المقرب من حضرتنا { و } حق { القرآنِ المجيد } إنك لرسول مجيد ، أو : { قۤ } أي : وحق القَويّ القريب ، والقادر القاهر . وقال مجاهد : هو جبل محيط بالأرض من زمُردة خضراء ، وعليه طغى الماء ، وخُضرة السماء منه ، والسماء مقبّبة عليه ، وما أصاب الناس من زمرد فمما تساقط من ذلك الجبل . ورُوي أن ذا القرنين وصل إليه ، فخاطبه ، وقال : يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله ، قال : إن شأن ربنا لَعظيم ، وإن ورائي أرضاً ميسرة خمسمائة عام ، في عرض خمسمائة عام ، من ثلج يحطم بعضه بعضاً ، لولا ذلك الثلج لاحترقت من نار جهنم . هـ . { والقرآنِ المجيد } أي : ذي المجد والشرف على سائر الكتب ، أو : لأنه كلام مجيد ، مَن علم معانيه وعمل بما فيه مَجُد عند الله وعند الناس . وجواب القسم محذوف ، أي : إنك لرسول نذير ، أوك لتُبعثن ، بدليل قوله : { أئذا متنا … } الخ ، أو : إنا أنزلناه إليك لِتُنذر به فلم يؤمنوا ، { بل عَجِبوا أن جاءهم } أي : لأن جاءهم { مُنذر منهم } من جنسهم ، لا من جنس الملائكة ، أو : من جلدتهم ، وهو إنكار لتعجّبهم مما ليس بعجب ، وهو أن يُخوفهم من غضب الله رجلٌ منهم قد عرفوا عدالته وأمانته ، ومَن كان كذلك لم يكن إلا ناصحاً لقومه ، خائفاً أن ينالهم مكروه وإذا علم أن مخوفاً أظلهم لزمه أن ينذرهم ، فكيف بما هو غاية المخاوف ؟ أو إنكار لتعجُّبهم مما أنذرَهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السموات والأرض وما بينهما ، وإقرارهم بالنشأة الأولى ، مع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء ، وإلا كان إنشاء الخلق عبثاً ، ثم بيَّن تعجُّبهم بقوله : { فقال الكافرون هذا شيءٌ عجيبٌ } أي : هذا الذي يقوله محمد من البعث بعد الموت شيءٌ عجيب ، أو : كون محمد منذراً بالقرآن شيءٌ يُتعجب منه . ووضع " الكافرون " موضع الضمير للدلالة على أنهم في قولهم هذا مُقدِمون على كفر عظيم . ثم قالوا : { أئِذا متنا وكنا تُراباً } أي : أنُبعث حين نموت ونصير تراباً كما يقوله هذا النذير ؟ { ذلك رجع بعيد } أي : ذلك البعث بعد هذه الحالة رجوع مستبعَد ، منكَر ، بعيد من الوهم والعادة . فالعامل في " إذا " محذوف مفهوم من الكلام كما قدرنا . قال تعالى : { قد عَلِما ما تنقصُ الأرضُ منهم } وهو ردّ لاستبعادهم فإنَّ مَن عمّ علمه ولطفه حتى ينتهي إلى حيث علم ما تنقص الأرضُ من أجساد الموتى ، وتأكل من لحومهم وعظمهم ، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا ؟ ! عن النبي صلى الله عليه وسلم : " كلُّ ابن آدم يأكله التراب إلا عَجْبُ الذَّنَب ، ومنه خُلق ، وفيه يُرَكَّب " وهو العُصْعص ، وقال في المصباح : العَجْب - كفلْس - من كل دابة : ما انضم عليه الورِك من أصل الذَّنَب . هـ . وهو عَظم صغير قدر الحمصة ، لا تأكله الأرض ، كما لا تأكل أجساد الأنبياء والأولياء والشهداء . قال ابن عطية : حفظ ما تنقص الأرض إنما هو لِيعود بعينه يوم القيامة ، وهذا هو الحق . وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه ، هذا عندي خلاف ظاهر كتاب الله ، ولو كانت غيرها كيف كانت تشهد الجلود والأيدي ولأرجل على الكفرة ؟ إلى غير ذلك مما يقتضي أن أسجاد الدنيا هي التي تعود . هـ . { وعندنا كتابٌ حفيظ } لتفاصيل الأشياء ، أو : محفوظ من التغيير ، وهو اللوح المحفوظ ، أو : حافظاً لما أودعه وكتب فيه ، أو : يريد علمه تعالى ، فيكون تمثيلاً لعلمه تعالى بكليات الأشياء وجزيئاتها ، بعلم مَنْ عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء . { بل كذّبوا بالحق } إضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة ، وتكذيب البعث ، إلى ما أشنع منه وأفظع ، وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة ، { لَمَّا جاءهم } من غير تأمُّل وتفكُّر ، وقيل : الحق : القرآن ، أو : الإخبار بالبعث ، { فهم في أمر مَرِيج } مضطرب ، لا قرار له ، يقال : مرج الخاتم في أصبعه إذا اضطرب من سعته ، فيقولون تارة : مجنون ، وطوراً : ساحر ، ومرة : كاهن ، ولا يثبتون على قول . أو : مختلط ، يقال : مرج أمر الناس : اختلط . أو : ملبِس ، قال قتادة : مَن ترك الحق مرج عليه أمره ، وألبس عليه دينه . { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم } بحيث يشاهدونها كل وقت { كيف بَنيناها } رفعناها بغير عمد { وزيّناها } بما فيها من الكواكب المترتبة على نظام عجيب ، { وما لها من فُروج } من فنوق لمَلاستها وسلامتها من كل عيبٍ وخلل ، { والأرضَ مددناها } بسطناها { وألقينا فيها رواسيَ } جبالاً ثوابت ، من : رسى الشيء : ثبت ، والتعبير عنها بهذا الوصف للإيذان بأن إلقاءها إنما هو للإرسال ، { وأنبتنا فيها من كل زوج } صنف { بهيج } حسن . { تبصرةً وذِكرَى } علتان للأفعال المذكورة ، أي : فعلنا ما فعلنا تبصُّراً وتذكيراً { لكل عبدٍ مُنيبٍ } أي : راجع إلى ربه ، متفكر في بدائع صنائعه . { ونزَّلنا من السماء ماءً مباركاً } كثير المنافع { فأنبتنا به جناتٍ } بساتين كثيرة { وحبَّ الحصيد } أي : حب الزرع الذي شأنه أن يحصد من البُرِّ والشعير وأمثالهما ، وتخصيص حب الحصيد بالذكر لأنه المقصود بالذات إذ به جل القوام . { والنَّخْلُ باسقاتٍ } طوالاً في السماء ، أو : حوامل ، من : بسَقت الشاة : إذا حملت . وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في " جنات " لبيان فضلها على سائر الأشجار ، { لها طَلع نَضِيدٌ } منضود ، بعضه فوق بعض ، والمراد : تراكم الطلع ، أو : كثرة ما فيه من الثمر ، { رزقاً للعباد } أي : لرزق أشباحهم ، كما أن قوله : { تبصرة وذكرى } لرزق أرواحهم . وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بما ذكر من حيث التذكُّر والتبصُّر الذي هو رزق الروح أهم وأقدم من تمتُّعه من حيث الرزق الحسي ، { وأحيينا به } بذلك الماء { بلدةً ميتاً } أرضاً جدبة ، لا نماء فيها أصلاً ، فلما أنزلنا عليه الماء رب واهتزت بالنبات والأزهار ، بعدما كانت جامدة . وضمَّن البلدة معنى البلد فذَكَّر الوصف . { كذلك الخروجُ } من القبور ، فكما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تُخرجون أحياء بعد موتكم ، لأن إحياء الموت كإحياء الأموات . وقدّم الخبر للقصد إلى القصر . والإشارة في " كذلك " إلى الحياة المستفادة من الإحياء ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعد رتبها ، أي : مثل ذلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور ، لا شيء مخالف لها . وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء ، وعن حياة الأموات بالخروج تفخيم لشأن النبات ، وتهوين لأمر البعث ، وتحقيق للمماثلة لتوضيح منهاج القياس ، وتقريبه إلى أفهام الناس . الإشارة : { قۤ } أيها القريب المقرَّب ، وحق القرآن المجيد ، إنك لحبيب مجيد ، رسول من عند الله الملك المجيد ، وإن كنت بشراً فنسبتك من البشر كياقوتة بين الحجر ، فالبشرية لا تُنافي الخصوصية ، بل تجامعها مِنَّةً منه تعالى وفضلاً ، على مَن شاء من عباده ، فاستبعاد الكفار مجامعة الخصوصية للبشرية كاستبعاد إبليس تفضيل آدم لكونه بشراً من طين ، وذلك قياس فاسد ، مضاد للنص ، وكما استَبعدت الكفرة وجود خصوصية النبوة في البشر ، استبعدت الجهلُ خصوصية التربية بالإصطلاح في البشر ، بل عجِبوا أن جاءهم منذر منهم ، يدل على الله ، ويُبين الطريق إليه ، قالوا : هذا شيء عجيب : { أئذا متنا } بأن ماتت قلوبنا بالغفلة ، { وكنا تراباً } أرضيين بشريين ، تحيى أرواحنا بمعرفة العيان ؟ ! ذلك رجع بعيد . قال تعالى : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } أرض النفوس من أرواحهم ، وتهوي بها إلى الحضيض الأسفل ، فيجذبها إلى أعلى عليين ، إن سبقت عنايتنا ، وعندنا كتاب حفيظ يحفظ المراتب والمقامات ، فيلتحق كل واحد بما سبق له . بل كذّبوا بالحق ، وهو الداعي إلى الحق ، لمّا جاءهم في كل زمان ، فهم في أمر مريج ، تارة يُقرون وجود التربية بالهمّة والحال ، وينكرون الاصطلاح ، وتارة يُقرون بالجميع ، وينكرون تعيينه ، أفلم ينظروا إلى سماء القلوب والأرواح ، كيف بنيناها ، أي : رفعنا قدرها بالعلوم والمعارف ، وزيَّنَّاها بأنوار الإيمان والإحسان ، وليس فيها خلل ، وأرض النفوس مددناها : جعلناها بساطاً للعبودية ، وألقينا فيها رواسي أرسيناها بالعقول الصافية الثابتة ، لئلا تضطرب عند زلزلات الامتحان ، وأنبتنا فيها من كل صنف بهيج ، من فنون علم الحكمة والتشريع ، تبصرةً وتذكيراً لكل عبدٍ منيبٍ ، راجع إلى مولاه ، قاصدٍ لمعرفته . قال القشيري : تبصرةً وذكرى لمَن رجع إلينا في شهود أفعالنا إلى رؤية صفاتنا ، ومن شهود صفاتنا إلى شهود ذاتنا . هـ . ونزَّلنا من السماء ماء العلوم اللدينة ، كثير البركة والنفع ، فأنبتنا به جنات المعارف وحب الحصيد ، وهو حب المحبة لأنه يحصد من القلب محبة ما سوى الله . والنخل باسقات ، أي : شجرة المعرفة الكاملة لها طلع نضيد : ثمرة المعرفة وحلاوة الشهود ، رزقاً لأرواح العباد ، وأحيينا به نفساً ميتة بالغفلة والجهل ، كذلك الخروج من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، أي : مثل هذا الخروج البديع يكون الخروج ، وإلا فلا . ثم هدَّدهم بما جرى على مَن قبلهم ، فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } .