Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 56-60)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { وما خلقتُ الجنَّ والإِنس إِلا ليعبدون } أي : إلا لنأمرهم بالعبادة والخضوع لربوبيتي ، لا لنستعين بهم على شأن من شؤوني ، كما هي عادة السادات في كسب العبيد ، ليستعينوا بهم على أمر الرزق والمعاش ، ويدلّ على هذا التأويل : قوله تعالى { وما أريد منهم من رزق … } الخ ، قال ابن المنير ، إلا لأمرهم بعبادته ، لا لطلب رزقٍ لأنفسهم ، ولا إطعام لي ، كما هو حال السادات من الخلق مع عبيدهم ، بل الله هو الذي يرزق ، وإنما على عباده العبادة له لأنهم مُكلَّفون ، ابتلاءً وامتحاناً ، أما الإرادة فكما تعلقت بالعبادة تعلقت بما يخالفها ، لقوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } [ الأعراف : 179 ] . هـ . وقيل المعنى : ما خلقهم إلا مستعدين للعبادة ، متمكنين منها أتم استعداد ، وأكمل تمكُّن ، فمنهم مَن أطاع ، ومنهم مَن كفر ، وهو كقولهم : البقرة مخلوقة للحرث ، أي : قابلة لذلك ، وقد يكون فيها مَن لا يحرث . والحاصل : أنه لا يلزم من كون الشيء مُعدّاً لشيءٍ أن يقع منه جميع ذلك . أو : ما خلقتهم إلا ليتذللوا لي ، ولقدرتي ، وإن لم يكن ذلك على قواعد شرع ، وهذا عام في الكل ، طوعاً أو كرهاً إذ كل ما خلق مُنقاد لقدرته وقهريته ، عابد له بهذا المعنى . وفي البخاري : وما خلقت أهل السعادة من الفريقين إلا ليُوحِّدون . وقال بعضهم : خلقهم ليفْعلوا ، ففعل بعضٌ وترك بعضٌ . وليس فيه حجة لأهل القدر . هـ . منه ، والمراد بأهل القدر : المعتزلة ، القائلون بأن الله تعالى لم يُرد الكفر والمعاصي ، وهو باطل ، وسيأتي في الإشارة بقية تحقيق إن شاء الله . { ما أُريد منهم من رزقٍ } أي : ما خلقتهم ليَرزقوا أنفسهم ، أو واحداً من عبادي ، { وما أُريد أن يُطعمون } قال ثعلب : أن يُطعموا عبادي ، وهو إضافة تخصيص ، كقوله عليه السلام : " مَن أكرم مؤمناً فقد أكرمني ومَن آذى مؤمناً فقد آذاني " ، والحاصل : أنه تعالى بيَّن أن شأنه مع عباده متعالياً عن أن يكون كشأن السادات مع عبيدهم ، حيث يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم ، وتهيئة أرزاقهم ، أي : ما أريد أن أصرفهم في تحصيل رزقي ولا رزقهم ، بل أتفضّل عليهم برزقهم ، وبما يصلحهم ويعيشهم من عندي ، فليشتغلوا بما خُلقوا له من عبادتي . { إِنَّ الله هو الرزَّاق } أي : يرزق كل مَن يفتقر إلى الرزق ، وفيه تلويح بأنه غني عنه ، { ذو القوة } ذو الاقتدار ، { المتينُ } أي : الشديد الصلب . وقرأ الأعمش " المتِين " بالجر ، نعت للقوة ، أي : ذو القوة المتينة ، وإنما ذكّره لتأول القوة بالاقتدار . { فإِنَّ للذين ظلموا } أنفسهم ، بتعريضها للعذاب ، حيث كذّبوا الرسولَ صلى الله عليه وسلم ، أو : وضعوا التكذيب مكان التصديق ، وهم أهل مكة ، { ذنوباً } أي : نصيباً وافراً من العذاب ، { مثل ذنوب أصحابهم } مثل عذاب نظائرهم من الأمم المحكية . قال الزجاج : الذَنوب في اللغة ، النصيب ، مأخوذ من مقاسمة السُقاة الماءَ بالذنوب ، وهو الدلو العظيم المملوء . { فلا يستعجلون } ذلك النصيب ، فإنه لاحق بهم ، وهذا جواب النضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب . { فويلٌ للذين كفروا } وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالكفر ، أي : فويلٌ لهم { من يومهِمُ الذي يُوعَدون } أي : من يوم القيامة ، أو يوم بدر ، والأول أنسب لما في صدر السورة الآتية . الإشارة : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - إنما بعث الرسلَ بإظهار الشرائع ، ليحوّشوا العباد إلى الله ، ويدعوهم إليه كافة ، ويأمروهم بالتبتُّل والانقطاع ، من غير التفات لمَن سبق له السعادة والشقاء لأن ذلك من سر القدر ، وغيب المشيئة لا يجوز كشفه في حالة الدعوة ، فقوله تعالى : { وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون } هذا ما يمكن الأمر به في ظاهر الأمر ، ويُؤمر بإظهاره في حالة الدعوة ، وكون الحق الحق تبارك وتعالى أراد من قوم الكفر والمعاصي من غيب المشيئة ، وسر القدر لا يقدح في عموم الدعوة التي تعلقت بالظواهر لأنه من قبيل الحقيقة ، وما جاءت الرسل إلا بالشريعة ، فالدعاة إلى الله يُعممون الدعوة ، ويُحرِّضون على التبتُّل والأنقطاع إلى الله ، وينظرون إلى ما يبرز من غيب المشيئة . وقال الورتجبي : عن جعفر الصادق { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي : ليعرفوني . هـ . ومداره قوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن رب العزة : " كنت كنزاً مخفياً لم أُعرف ، فأحببتُ أن أُعرف ، فخلقت الخلق لأُعرف " أي : ما أظهرت الخلق إلا لأُعرف بهم ، فتجليت بهم في قوالب العبودية ، لتظهر ربوبيتي في قوالب العبودية ، فتظهر قدرتي وحكمتي ، فسبحان الحكيم العليم . قال أبو السعود : ولعل السر في التعبير عن المعرفة بالعبادة للتبيه على أن المعتَبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى ، لا ما يحصل بغيرها ، كمعرفة الفلاسفة . هـ . قلت : وكل معرفة وحقيقة لا تصحبها شريعة لا عبرة بها ، بل هي زندقة أو دعوى . وبالله التوفيق . وقوله تعالى : { إِن الله هو الرزّاقُ ذو القوة المتين } هذه الآية وأمثالها هي التي غسلت الأمراض والشكوك من قلوب الصدِّيقين ، حتى حصل لهم اليقين الكبير ، فسكنت نفوسُهم ، واطمأنت قلوبهم ، فهم في روح وريحان . والأحاديث في ضمان الرزق كثيرة ، وأقوال السلف كذلك ، وفي حديث أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم قال : " لو فَرَّ أحدُكم من رِزْقه لتبعه كما يَتْبعه الموتُ " وقال أيضاً عن الله عزّ وجل : " يقول : " يا ابن آدم تفرَّغْ لعبادتي ، املأ صدرك غِنىً ، وأسُد فقرك ، وإلا تفعل ملأت يدك شُغلاً " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " مَن كانت الآخرة هَمَّه ، جعل الله غناه في قلبه ، وجمع له شَمْلَه ، وأتته الدنيا وهي صاغرة ، ومَن كانت الدنيا همه جعل الله فقرّه بين عينيه ، وفرَّق عليه شملَه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له " . وقال المحاسبي : قلت لشيخنا : من أين وقع الاضطراب في القلوب ، وقد جاء الضمان من الله عزّ وجل ؟ قال : من وجهين : من قلة المعرفة وقلة حسن الظن . ثم قال : قلت : شيء غيره ؟ قال : نعم ، إن الله عزّ وجل وَعَدَ الأرزاق وضمِنها ، وغيّب الأوقات ، ليختبر أهل العقول ، ولولا ذلك لكان كل المؤمنين راضين ، صابرين ، متوكلين ، لكن الله - عزّ وجل - أعلمهم أنه رازقهم ، وحلف لهم ، وغيّب عنهم أوقات العطاء ، فمِن هنا عُرف الخاص من العام ، وتفاوت العباد ، فمنهم ساكن ، ومنهم متحرك ، ومنهم ساخط ، ومنهم جازع ، فعلى قدر ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين . هـ . مختصراً . وبالله التوفيق . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .