Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 52, Ayat: 17-23)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ المتقين } الشرك والمعاصي { في جناتٍ } عظيمة { ونعيمٍ } أيّ نعيم ، فالتنكير للتفخيم ، أو : للتنوع ، أي : جناتٍ مخصوصة بهم ، ونعيمٍ مخصوص ، { فاكهين } ناعمين متلذذين { بما آتاهم ربُّهم } بما أتحفهم ، { ووقاهم رَبُّهم عذابَ الجحيم } عطف على " آتاهم " على أن " ما " مصدرية ، أي : فاكهين بإتياهنم وبوقايتهم ، أو : على " في جنات النعيم " أي : استقروا في جنات ووقاهم ، أو : حال ، إما من المستكن في الخبر ، أو : من فاعل " آتى " ، أو : مفعوله بإضمار " قد " . وإظهار الرب في موضع الإضمار مضافاً إلى ضمير { هم } لتشريفهم ، ويُقال لهم : { كُلوا واشربوا } ما شئتم { هنيئاً } أي : أكلاً وشرباً هنيئاً ، أو : طعاماً وشراباً هنيئاً ، لا تنغيص فيه بخوف انقطاعه أو فواته ، { بما كنتم } أي : عوض ما كنتم { تعملون } في الدنيا من الخير ، أو جزاءه . { متكئين على سُررٍ مصفوفةٍ } مصطفة ، وهو حال من الضمير في { كلوا واشربوا } ، { وزوَّجناهم } أي : قرنّاهم { بحُورٍ } جمع حوراء { عينٍ } : جمع عيناء ، أي : عظام الأعين حِسانها . وفي الكشّاف : وإنما دخلت الباء في { بِحُورٍ } لتضمن معنى زوجناهم قرناهم . هـ . وقال الهروي : { زوَّجناهم } أي : قرناهم ، والأزواج : الأشكال والقرناء ، وليس في الجنة تزويج . هـ . والمنفي : تحمل مؤنة التزويج والمعاقدة ، وإنما يقع التمليك والإقران . { والذين آمنوا } مبتدأ ، { واتَّبعتهم ذريتُهم } عطف على { آمنوا } ، و { بإِيمان } متعلق بالاتباع ، والخبر : { ألحقنا بهم ذرياتهم } أي : تلحق الأولاد بدرجات الآباء إذ شاركوهم في الإيمان ، وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء ، وكذلك الآباء تلحق بدرجة الأبناء لتقرّ بذلك أعينهم ، فيلحق بعضهم ببعض ، إذا اجتمعوا في الإيمان من غير أن ينقص أجر مَنْ هو أحسن عملاً شيئاً ، بزيادته في درجة الأنقص ، ولا فرق بين مَنْ بلغ مِن الذرية ، أو لم يبلغ ، إذا كان الآباء مؤمنين . انظر الثعلبي . وفي حديث ابن عباس : " إذا دخل أهلُ الجنة الجنة ، يسأل الرجلُ عن أبويه ، وزوجته ، وولده ، فيُقال : إنهم لم يُدركوا ما أدركتَ ، فيقول : لقد عملتُ لي ولهم أجمعين ، فيؤمر بإلحاقهم به " قال القشيري : ليكمل عليهم سرورهم بذلك فإنّ الانفراد بالنعمة والقلب مشتغل بالأهل والذرية ينغص العيش ، وكذلك مَن يلاحظ قلباً من صديق وقريب ووليّ وخادم ، قال تعالى في قصة يوسف : { وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [ يوسف : 93 ] . هـ . قال في الحاشية : وربما يستأنس بما ذُكر في الجملة بقوله : { وَمَن يُطِعِ اللَّهِ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم … } [ النساء : 69 ] الآية ، وما قيل في سبب نزولها ، وكذلك حديث : " المرء مع مَن أحب " ، وحال الجنة مما لا يخطر على بال ، فيجوز أن يكون الأدنى مع الأعلى بمنازلته معه ، مع مباينته له بحقيقته ، كما أنّ حَيطة الحق تعالى شاملة للكل ، وكل يتعرّف له على قدره ، فالكل معه بمطلق التعرُّف ، مع تحقُّق التفاوت ، وأهل الجنة فيها على حكم الأرواح ، وأحكامها لا تكيف ، واعتبر بالفروع مع الأصول ، مع تفاوتها . والله أعلم . هـ . والحاصل : أنهم يلحقون بهم في الطبقة ، ويتفاوتون في نعيم الأرواح والأشباح ، وفي الرؤية والزيادة . والله تعالى أعلم . { وما أَلتناهم } أي : ما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق { مِن عملهم } من ثواب عملهم { من شيءٍ } بأن أعطينا بعض مثوباتهم لأبنائهم ، فتنقص مثوبتهم ، وتنحط درجتهم ، وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضُّل والإحسان . والألت : البخس . وقرأ المكي : أَلِتناهم بكسر اللام ، من : ألِت يألَت ، كعلم يعلم ، و " مِن " الأولى متعلقة بـ " ألتناهم " ، والثانية زائدة لتأكيد النفي . { كُلُّ امرئ بما كسب رهينٌ } أي : كل امرئ مرهون عند الله بعمله ، فإن كان صالحاً فله ، وإلا أهلكه . والجملة : استئناف بياني ، كأنه لمّا قال : ما نقصناهم من عملهم شيئاً نعطيه الأبناء حتى يلحقو بهم على سبيل التفضُّل ، قيل : لِمَ كان الإلحاق تفضُّلاً ؟ قال : لأن كل امرىءٍ بما كسب رهين ، وهؤلاء لم يكن لهم عمل يلحقوا بسببه بهم ، فأُلحقوا تفضُّلاً . { وأمددناهم } أي : وزوّدناهم في وقت بعد وقت { بفاكهةٍ ولحم مما يشتهون } من فنون النعماء وألوان اللآلئ ، وإن لم يطلبوا ذلك . { يتنازعون فيها كأساً } أي : يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم كأساً فيها خمر ، يتناول هذا الكأسَ من يد هذا ، وهذا من يد هذا ، بكمال رغبة واشتياق ، { لا لغوٌ فيها } أي : في شربها ، فلا يتكلمون في أثناء الشراب إلا بكلام طيب ، فلا يجري بينهم باطل ، { ولا تأثيمٌ } أي : لا يفعلون ما يُوجب إثماً لصاحبه لو فعله في دار التكليف ، كما هو شأن المُنادمين في الدنيا ، وإنما يتكلمون بالحِكَم واحاسِن الكلام ، ويفعلون ما يفعله الكرام . قال القشيري : { لا لغوٌ فيها ولا تأثيم } لا يجري بينهم باطل ولا ما فيه لوم ، كما يجري من الشَّرْب اليوم في الدنيا ، ولا تذهب عقولهم ، فيجري بينهم ما يُخرج عن حدّ الأدب والاستقامة ، وكيف لا يكون مجلسهم بهذه الصفة ، على المعلوم مَن يسقيهم بمشهد من مجلوسهم ، وعلى رؤية من شربهم ، والقوم عن الدار وعن ما فيها مختطفون باستيلاء ما يستغرقهم ، فالشراب يؤنسهم ، ولكن لا يمر بحاستهم . هـ . وقرأ المكي والبصري بالفتح فيها على إعمال " لا " النافية للجنس . الإشارة : إنَّ المتقين ما سوى الله في جنات المعارف عاجلاً ، وجنات الزخارف والمعارف آجلاً ، ونعيم المشاهدات والمكاشفات والمناجاة ، فاكهين ، معجبين ، متلذذين بما آتاهم ربهم من أصناف ألطافه ، وتقريبه ، ووقاهم ربُّهم عذابَ الجحيم ، أي : نار شهوة نفوسهم ، فبردت عنهم ، وسَلِموا منها ، كُلوا من طعام المشاهدات ، واشربوا من أمداد الزيادات والترقيات ، هنيئاً بما كنتم تعملون من المجاهدات والمكابدات ، متكئين على سُرر المقامات ، والدرجات ، مصفوفة في منازل العبودية ، وزوجناهم بحُورٍ عين من أبكار الحقائق ، وثيبات العلوم ، والذين آمنوا بهذه الطريق وسلكوها ، واتبعتهم ذريتهم ومَنْ تعلق بهم من طلاب الحق ، ألحقنا بهم ذريتهم ومَنْ تعلق بهم ، وإن لم يبلغوا صفاء مشربهم من الوصال والاتصال ، فيكونون معهم في الدرجة ، مع تفاوتهم في نعيم المشاهدة ، وما ألتناهم من عملهم من شيء ، بل ألحقناهم بهم فضلاً وكرماً ، مع توفُّر ثواب عمل الملحق بهم ، كل امرئ بما كسب رهين ، لا يزيد نعيم روحه على سعيه في الدنيا ومجاهدته ، وإن تساوى في الدرجة مع غيره . وأمددناهم بفاكهةٍ من حلاوة المعاملة ، ولحم مما يشتهون من لذائذ المشاهدة ، يتنازعون فيها في جنة المعارف ، كأس خمر المحبةً والفناء ، فيفنون عن وجودهم في شهود محبوبهم . يتناولون ذلك من أشياخهم واحداً بعد واحد ، وقد يجتمعون في كأس واحدة ، لا لغو فيها ، أي : لا حديث للنفس في حال شربها ، بل الهم كله مجموع يها ، كما قال القائل : @ وإذا جلستَ إلى المُدام وشُربِه فاجعلْ حديثكَ كلّه في الكأس @@ فالخمرة التي يشوبها شيء من حديث النفْس ليس بصافية من الأكدار . ولا تأثيم بنزوع الروح إلى طبع النفس ، وإذا نزلت إلى سماء الحقوق ، أو أرض الحظوظ ، بل تكون في ذلك بالله ، ومن الله ، وإلى الله ، تنزل بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، جلعنا الله من ذلك القبيل بمنّه وكرمه . وقال الورتجبي : { يتنازعون … } الآية : وصفهم الله في شربهم كاسات شراب الوصلة بالمسارعة والشوق إلى مزيد القُربة ، ثم وصف شرابَهم أنه يورثهم التمكين والاستقامة في السُكْر ، لا يزول حالهم إلى الشطح والعربدة ، وما يتكلم به سكارى المعرفة في الدنيا عند الخلق ، ولا يشابِهُ حالُ أهل الحضرة حالَ أهل الدنيا من جميع المعاني . هـ . ثم قال تعالى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ } .