Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 53, Ayat: 1-18)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { والنجم } أي : الثريا ، أو : جنس النجم { إِذا هَوَى } إذا غرب ، أو : انتثر يوم القيامة ، أو طلع ، يقال : هَوَى هَوِياً ، بوزن " قَيول " إذا غرب ، وهَوى هُوياً ، بوزن دُخول : إذا طلع . والعامل في { إذا } فعل القسم ، أي : أقسم بالنجم وقت غروبه أو طلوعه . وجواب القسم : { ما ضلَّ } عن قصد الحق { صاحِبكُم } أي : محمد صلى الله عليه وسلم ، والخطاب لقريش . { وما غَوَى } في اتباع الباطل ، أو : ما اعتقد باطلاً قط ، أي : هو في غاية الهدى والرشد ، وليس مما تتوهموه من الضلالة والغواية في شيء . فالضلال ، نقيض الهدى ، والغي نقيض الرشد ، ومرجعهما لشيء واحد ، وهو عدم اتباع طريق الحق . وقال الفخر : أكثر المفسرين لم يُفرقوا بين الغي والضلال ، والفرق بينهما : أنَّ الغي في مقابلة الرشد ، والضلال أعم منه ، والاسم من الغي : الغَواية - بالفتح - والحاصل : أنّ الغي أقبح من الضلال ، إذ لا يرجى فلاحه . وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان صاحبهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة ، وإحاطتهم خُبراً ببراءته - عليه الصلاة والسلام - مما نفى عنه بالكلية ، وباتصافه - عليه الصلاة والسلام - بغاية الهدى والرشد فإنَّ كون صحبتهم له صلى الله عليه وسلم ، ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتماً . وتقييد القسم بوقت الهُوى لأن النجم لا يهتدي به الساري إلا عند هبوطه أو صعوده ، وأما ما دام في وسط السماء فلا يهتدي به ، ولا يعرف المشرق من المغرب ، ولا الشمال من الجَنوب . ثم قال : { وما ينطق عن الهوى } أي : وما يصدر نطقه بالقرآن أو غيره عن هواه ورأيه أصلاً ، { إنْ هو إِلا وحيٌ } من الله تعالى { يُوحَى } إليه ، وهي صفة مؤكدة لوَحْي ، لرفع المجاز ، مفيدة لاستمرار التجدُّد للوحي ، واحتج بهذه الآية مَن لا يرى الاجتهاد للأنبياء - عليه السلام - ويُجاب بأن الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحي ، لا نُطقاً عن الهوى . { علَّمه شديدُ القوى } أي : مَلكٌ شديد قواه ، وهو جبريل عليه السلام : فإنه الواسطة في إيراد الوحي إلى الأنبياء ، ومَن قوته أنه خلع قُرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى ، وحملها على جناحه ، ورفعاه إلى السماء ثم قلبها ، وصاح صيحةً بثمود ، فأصبحوا جاثمين ، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده أسرع من لحظة . { ذو مِرَّةٍ } أي : ذو خصابة في عقله ، ورزانة ومتانة في دينه . وأصل المِرة : الشدّة ، من مراير الحبل ، وهو فتله فتلاً شديداً ، أو : ذو حُسن في منظره ، { فاستوى } : عطفٌ على " علَّمه " بطريق التفسير ، فإنه إلى قوله : { ما أوحى } بيان لكيفية التعليم ، أو : فاستقام على صورته التي خلقه الله عليها ، دون الصورة التي كان يتمثّل بها كلما هبط بالوحي ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ أن يراه في الصورة التي خلقه اللّهُ عليها ، وكان صلى الله عليه وسلم بحراء ، فطلع له جبريلُ من المشرق ، وسدّ الأرض من المغرب ، وملأ الأفق ، فخرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل في صورة الأدمي ، فضمّه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه . قيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الأصلية إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه رآه فيها مرتين مرة في الأرض ، ومرة في السماء ، وقيل : استوى بقوته على ما جعل له من الأمر . { وهو } أي : جبريل { بالأُفق الأعلى } أفق الشمس ، أي : مطلعها ، { ثم دنا } جبريلُ من النبي صلى الله عليه وسلم { فتدلَّى } أي : زاد في القرب ، أو : استرسل من الأفق مع تعلُّق به . يقال : تدلت الشجرة ، ودلّى رجله من السرير ، ودلّى دلوه ، والدوالي : الثمر المُعلّق . { فكان قابَ قوسين } أي : مقدار قوسين عربيين . والقاب : المقدار . قال قتادة وغيره : معناه : من طرف العود إلى طرفه الآخر . وقال مجاهد والحسن : من الوتر إلى العود في وسط القوس ، أي : فكان بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين ، { أو أدنى } في تقديركم ، كقوله : { أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] وهذا لأنهم خُوطبوا على لغتهم وفهمهم ، وهم يقولون : هذا مقدار قوسين أو أدنى . { فأَوْحَى إلى عبده ما أَوْحَى } أي : فأوحى الله تعالى إلى عبده بواسطة تجلّي جبريل { ما أوحى } من الأمور العظيمة التي لا تفي بها العبارة ، وقيل : أوحى إليه : " أنَّ الجنة مُحرّمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك " ويمكن حمل الآية على قصة المعراج ، أي : { علَّمه شديد القوى } وهو الله تعالى ، { ذُو مِرة } أي : شدة ومتانة ، ومنه : أسمه " المتين " ، { فاستوى } بنوره أي : تجلّى بنور ذاته من ناحية الأُفق ، أي : العلو فتدلّى ذلك النور { فكان قاب قوسين أو أدنى } وفي البخاري : " فدنا ربُّ العزة دنو يليق بجلاله ومجده " ويرجع لتجلّيه لنبيه ، وتنزُّله له ، وتعرّفه له ، وفي حديث الإسراء عنه - عليه الصلاة والسلام - : " سمع النداء من العلي الأعلى : أُدن يا خير البرية ، أُدن يا محمد ، فأدناني ربي حتى كنتُ كما قال تعالى : { ثم دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى } " قال القشيري : ويُقال : كان بينه وبين ربه قَدْر قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى . { ما كَذَبَ الفؤادُ } أي : فؤاد محمد عليه السلام { ما رأى } أي : ما رآه ببصره من صورة جبريل على تلك الكيفية ، أو : من نور الحق تعالى الذي تجلّى له ، أي : ما قال فؤاده لَمَّا رآه : لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه بقلبه ، كما عرفه ببصره ، وقيل : على إسقاط الخافض ، أي : ما كذب القلب فيما رآه البصر ، بل ما رآه ببصره حققه ، وفي الحديث : سئل صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال : " رأيت ربي بفؤادي مرتين " ، حديث آخر : " جعل نور بصري في فؤادي ، فنظرتُ إليه بفؤادي " ، يعني أنه انعكس نور البصر إلى نور البصيرة فرأى ببصره ما رأته البصيرة ، وجاء أيضاً : أنه لما انتهى إلى العرش صار كله بصراً ، وبهذا يرتفع الخلاف ، وأنه رآه ببصر رأسه وقوله عليه السلام حين سأله أبو ذر : هل رأيت ربك ؟ فقال " نورَاني أراه " وفي رواية : " نورٌ أَنَّى أراه " ؟ بالاستفهام ، وفي طريق آخر : " رأيت نوراً " وحاصلها : أنه رأى ذات الحق متجلية بنور من نور جبروته إذ لا يمكن أن ترى الذات إلا بواسطة التجليات ، كما هو مقرر عند محققي الصوفية ، كما قال الشاعر : @ وليستْ تُنال الذاتُ من غير مَظهرٍ ولو هُتك الإنسانُ من شدةِ الحرصِ @@ وقال كعب لابن عباس : إنَّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلَّم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين . وقيل لابن عباس : ألم يقل الله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } [ الأنعام : 103 ] ، قال : ذلك إذا تجلّى بنوره . الذي هو نوره الأصلي ، يعني أن الله تعالى يتجلّى لخلقه على ما يطيقون ، ولو تجلّى بنوره الأصلي لتلاشى الخلق ، كما قال في الحديث : " حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت تجليات وجهه ما أدركه من بصره " { أَفتُمارونه } أي : أفتجادلونه ، من : المراء ، وهو المجادلة ، واشتقاقه من : مَرْي الناقة ، وهو استخراج لبنها ، كأنَّ كل واحد من المتجادلين يَمْري ما عند صاحبه ، أي : يستخرجه . وقُرئ في التواتر : " أَفَتَمْرُونه " أي : أفتغلبونه . ولما فيه من معنى الغلبة ، قال تعالى : { على ما يرى } فعدّى بعلى ، كما تقول : غلبته على كذا ، وقيل : أفتمرونه : أفتجحدونه ، يقال : مريته حقّه : جحدته ، وتعديته بـ " على " على مذهب التضمين ، والمعنى : أفتُخاصمونه على ما يرى معانيةً ، وحققه باطناً . { ولقد رآه } أي : رأى محمدٌ جبريلَ على صورته الأصلية ، أو : رأى ربه على تجلٍّ خاص وتعرفٍ تام ، { نزلةً أخرى } مرةً أخرى ، والحاصل : أنه عليه السلام رأى ربه بتجلٍّ خاص جبروتي مرتين ، عند خرق الحُجب العلوية فوق العرش ، عند السدرة ، وأما رؤيته عليه السلام لله تعالى في مظاهر الكائنات ففي كل حين ، لا يغيب عنه طرفة عين . والنزلة : فعلة من النزول ، نُصب نَصبَ الظرف الذي هو " مرّة " . { عند سِدرة المنتهى } الجمهور : أنها شجرة النبق في السماء السابعة ، عن يمين العرش ، وتسميتها المنتهى إما لأنها في منتهى الجنة وآخرها ، أو : لأنها لم يُجاوزها أحد ، وإليها ينتهي علم الخلائق ، ولا يعلم أحدٌ ما وراءها ، أو : إليها ينتهي أرواح الخلائق ، أو : أرواح الشهداء ، وفي الحديث : " أنها شجرة يسير الراكب في ظلها ألف عام ، لا يقطعها ، والورقة منها تُظل الأُمّة ، وتمرها كالقِلال الكبار " . { عندها جنةُ المأوى } أي : الجنة التي يصير إليها المتقون ويأوون إليها ، أو : تأوي إليها أرواح الشهداء والصدّيقين والأنبياء . قال ابن جُزي : يعني أن الجنة التي وَعَدَ اللّهُ بها عبادَه هي عند سدرة المنتهى ، وقيل : هي جنة أخرى ، والأول أظهر وأشهر . هـ . ويؤيده ما في الحديث : " إن النيل والفرات يخرجان من أصلها " وهما من الجنة ، كما في الصحيح . { إِذ يغشى السدرةَ ما يغشى } ظرف للرؤية ، أي : لقد رآه عند السدرة وقت ما غشيها ما غشيها ، مما لا يكتنهه الوصف ، ولا يفي به البيان ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ، استحضاراً لصوتها البديعة ، أو للإيذان باستمرار الغشيان وتجدُّده ، وقيل : يغشاها الجمُّ الغفير من الملائكة ، يعبدون الله تعالى عندها ، وقيل : يزورونها متبركين بها ، كما يزور الناسُ الكعبة ، وقيل : يغشاها فَراش من ذهب ، والفَراش - بفتح الفاء - ما يطير ويضطرب . { ما زاغ البصرُ } أي : بصر محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، أي : ما عدل عن رؤية العجائب التي مُكِّنَ من رؤيتها ، { وما طغى } وما جاوز ما أمر برؤيته ، { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } أي : والله لقد رأى من عجائب الملكوت وأسرار الجبروت وما لا يفي به نطاق العبارة وقد دُوِّنَتْ هنا كُتبٌ في عجائب ما رآه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج . الإشارة : أقسم اللّهُ تعالى بنجم العلم إذا طلع في أفق سماء القلوب الصاحية ، إنَّ هذا القلب الذي طلع فيه نجم العلم بالله ، وأشرقت عليه شمسُ الحقائق ، لا يَضل صاحبُه ولا يغوى ، وما ينطق عن الهوى لأنه مستغرق في شهود الحق ، لا يتجلى فيه إلا الحق ، { إن هو } أي : ما يتجلى فيه إلا وحي يُوحى من قِبل الإلهام الإلهي ، علّمه شديدُ القوى ، وهو الوارد الرباني ، ذو مِرةٍ وشدة لأنه من حضرة قهّار ، ولا يُصادم شيئاً إلا دفعه ، فاستوى وهو بالأفق الإعلى على من سماء الغيوب ، ثم دنا من القلب فتدلّى ، فكان من القلب قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى اللّهُ تعالى بواسطة ذلك الوارد إلى عبده ما أوحى من علوم الحقائق والأسرار ، ومن مكاشفات غيوب الأقدار ، ما كذب الفؤادُ فيما رأى لأنه حق ، لكن قهرية العبودية غيَّبت عنه تعيين وقت وقوعه . ولقد رآه ، أي : رأى القلبُ أسرارَ ذات الحق ، نزلةً أخرى في عالم الجبروت ، الخارج عن دائرة التجليات الكونية ، وهي الأسرار اللطيفة ، المحيطة في الأنوار الملكوتية والملكية ، عند سِدرة المنتهى ، وهي شجرة القبضة المحمدية ، التي انتهى إليها علم العلماء ، وأرواح الشهداء ، إذ لا يخرج عن دائرتها أفكار العارفين . عندها جنة المأوى التي يأوي إليها أفكار العارفين وأسرار الراسخين ، إذا يغشى السدرة - أي : شجرة الكون - ما يغشى من الفناء والتلاشي عند سطوع شمس الحقائق ، ما زاغ بصرُ البصيرة عن شهود تلك الأسرار ، وما حجبه عنها أرض ، ولا سماء ، ولا عرش ، ولا كرسي لتلطُّف تلك العوالم في نظر العارف ، وما طغى : وما جاوز العبودية حتى يطمع في الإحاطة بعظمة كنه الربوبية ، فإنَّ الإحاطة لا تُمكن ، لا في هذه الدار ، ولا في تلك الدار ، بل يبقى الترقي في الكشوفات ، والمزيد من حلاوة الشهود أبداً سرمداً ، لقد رأى هذا القلب الصافي من عجائب ربه الكبرى ، حيث وسع مَن لم تسعه أرضه ولا سماؤه . وقال الروتجبي بعد كلام : في هذه الآية بيان كمال شرف حبيبه ، إذ رآه نزلةً أخرى ، عند سدرة المنتهى ، ظنَّ صلى الله عليه وسلم أنَّ ما رآه في الأول لا يكون في الكون - أي : في مظهر الكون - لكمال علمه بتنزيه الحق ، فلما رآه ثانياً علم أنه لا يحجبه شيء من الحدثان ، وعادة الكُبراء إذا زارهم أحد يأتون معه إلى باب الدار إذا كان عليهم كريمً ، فهذا منه سبحانه إظهار كمال حُبه لحبيبه . وحقيقة الإشارة : أنه سبحانه أراد أن يعرف حبيبه مقام الالتباس ، فلبس الأمر ، وظهرَ المكرُ ، وبان الحقُّ من شجرة سدرة المنتهى ، كما بان من شجرة العِناب لموسى ، ليعرفَهُ حبيبُه بكمال المعرفة ، إذ ليس بعارف مَن لم يعرف حبيبه في لباس مختلفة ، وبيان ذلك في قوله : { إذ يغشى السدرة ما يغشى } وأبهم ما غشيه لأن العقول لا تُدرك حقائق ما يغشاها ، وكيف يغشاها ، والقِدم منزّه عن الحلول في الأماكن ؟ ! كان ولا شجرة ، وكانت الشجرة مرآه لظهوره سبحانه ، ما ألطف ظهوره ، لا يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يؤمنون به بعد عرفانهم به . هـ . ولمّا فرغ من ذكر عظمة الله وكبريائه ، ذكر حقارة مَنْ عُبد مِن دونه ، ترهيباً وترغيباً ، فقال : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ } .