Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 53, Ayat: 19-25)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { أفرأيتم اللاتَ والعُزّى ومناةَ الثالثةَ الأخرى } أي : أخبروني عن هذه الأشياء التي تبعدونها من دون الله ، هل لها من القدرة والعظمة التي وُصف بها رَبُّ العزة في الآي السابقة حتى استحقت العبادة ، أم لا ؟ واللات وما بعدها : أصنام كانت لهم ، فاللات كانت لثقيف بالطائف ، وقيل : كانت بنخلة تعبدها قريش ، وهي فَعْلَةٌ ، من : لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويطوفون بها . وقرأ ابن عباس ومجاهد ورُويس بتشديد التاء ، على أنه اسم فاعل ، اشتهر برجلاً كان يُلتُّ السَّوِيق بالزيت ، ويُطعمه الحاجَ ، فلما مات عكفواعلى قبره يبعدونه . { والعُزى } كانت لغفطان ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بن الوليد فقطعها ، فخرجت منها شياطنة ناشرة شعرها ، واضعة يدها على رأسها ، وهي تُولول ، فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تلك العُزى ، لن تُعبد بعد اليوم أبداً " . { ومناة } : صخرة على ساحل البحر لهذيل وخزاعة ، وقيل : بيت بالمشلّل يعبدوه بنو كعب ، وسميت مناة لأن دماء النسائك تُمنى ، أي : تُراق عندها لأنهم كانوا يذبحون عندها . وقرأ بان كثير بالهمزة بعد الألف ، مشتق من النوء لأنهم كانوا يستمطرون بالأنواء عندها ، تبرُّكاً بها ، وقيل : سَموا هذه الأصنام بأسماء الله ، وأَنَّثوها ، كأنها بنات الله في زعمهم الفاسد ، فاللات من " الله " ، كما قالوا : عمر وعمرة ، وعباس وعباسة ، فالتاء للتأنيث . والعُزَّى : تأنيث العزيز ، ومناة : تأنيث منان ، فغُيّر تخفيفاً ، ويؤيد هذا قولُه تعالى ردّاً عيهم : { ألكم الذكُر وله الأنثى } . و { الأخرى } : صفة ذمّ لها ، وهي المتأخرة الوضيعة القدر ، كقوله : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } [ الأعراف : 38 ] أي : وضعاؤهم لرؤسائهم ، وقيل : وصفها بالوصفين لأنهم كانوا يُعظِّمونها أكثر من اللات والعزى ، والفاء في قوله : { أفرأيتم } للعطف على محذوف ، وهي لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : عَقِب ما سمعتم من كمال عظمته تعالى في ملكه وملكوته ، وأحكام قدرته ، ونفوذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما ، رأيتم هذه الأصنام مع حقارتها بنات الله ، مع وأدكم البنات ، وكراهتكم لهنَّ ؟ . { ألكمُ الذكرُ وله الأنثى } أي : أتُحبون لكم الذكر وتنسبون له الأنثى كهذه الأصنام والملائكة ؟ { تلك إِذاً قسمةٌ ضِيزَى } أي : جائرة ، من : ضازه يضيزه : إذا ظلمه ، وصرّح في القاموس بأنه مثلث الضاد ضيزى وضوزى وضازى ، وهو هنا فُعلى بالضم ، من الضيز ، لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء ، كما فعل في " بيض " ، فإن " فِعلى " بالكسر لم تأت وصفاً ، وإنما هي من بناء الأسماء ، كالشّعرى والدفلى . وقال ابن هشام : فإن كانت فُعلى صفة محضة وجب قلب الضمة كسرة ، ولم يُسمع من ذلك إلا " قسمة ضيزى " " ومشية حِيكى " ، أي : يتحرك فيها المنكبان . هـ . وقرأ المكيُّ بالهمز ، من : ضأزه : ظلمه ، فهو مصدر نعت به . { إِنْ هي } أي : هذه الأصنام { إِلاَّ أسماءٌ } وليس تحتها في الحقيقة مسميات لأنكم تدّعون لها الألوهية ، وهي أبعد شيء منها ، { سميتموها } آلهة ، أو : سميتم بها هذه الأصنام ، واعتقدتم أنها آلهة ، بمقتضى أهوائكم الباطلة ، { أنتم وآباؤكم ما أنزل اللّهُ بها } بعبادتها { من سلطان } من حجة . { إِن يتبعونَ } فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها { إلاَّ الظنَّ } : إلا توهم أنَّ ما هم عليه حق ، توهُّماً باطلاً ، { وما تهوى الأنفُسُ } أي : ما تشتهيه أنفسهم الأمّارة ، { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } الرسول والكتاب فتركوه . { أم للإِنسان ما تمنَّى } . " أم " : منقطعة ، والهمزة للإنكار ، أي : ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسُه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة في شفاعة الآلهة ونظائرها ، كقول بعضهم : { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى } [ فصلت : 50 ] ، وكَتَمَنِّي بعضُهم أن يكون هو النبي ، { فللّه الآخرةُ والأُولى } أي : الدنيا والآخرة ، هو مالكهما والحاكم فيهما ، يُعطي الشفاعة والنبوة مَن شاء ، لا مَن تمناها بمجرد الهوى ، وهو تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما تمنّى ، فإنَّ ختصاص أمور الآخرة والأُولى به تعالى مقتضٍ لانتفاء أن يكون للإنسان شيء مما تمنى إلا ان يشاء ويرضى . الإشارة : هذه الأصنام موجودة في كل إنسان ، فاللات : حب اللذات والشهوات الجسمانية الفانية ، فمَن كان حريصاً عليها ، جامعاً لأسبابها ، فهو عابد لها ، والعُزى : حب العز والجاه والرئاسة وسائر الشهوات القلبية ، فمَن طلبها فهو عبد لها ، ومناة : تمني البقاء في الدنيا الدنية الحقيرة ، وطول الأمل فيها ، وكراهية الموت ، فمَن كان هذا وصفه فهو عبد الدنيا ، كاره لقاء الله ، فيكره اللّهُ لقاءه ، فتوجه لهؤلاء العتاب بقوله تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر } حيث تُحبون ما هو كمال لأنفسكم ، { وله الأنثى } ؟ حيث جعلتم هذه الأشياء الحقيرة شريكة لله في استحقاق العبادة والمحبة ، تلك إذاً قسمة ضِيزى جائرة ، ما هي إلا أسماء ليس تحتها طائل ، تفنى ويبقى عليها العذاب والعتاب ، سميتموها واعتنيتم بشأنها والانكباب عليها ، أنتم وآباؤكم ، ما أنزل الله بمتابعتها والحرص على تحصيلها من سلطان ولا برهان ، إن يتبعون في ابتاعها والحرص عليها إلا الظن ، ظنوا أنها كانت مباحة في ظاهر الشرع لا تَضُر القلبَ ولا تحجبه عن شهود الرب ، وهو رأي فاسد إذ ليس للقلب إلا وجهة واحدة ، إن توجه لطلب الحظوظ أعرض عن الله قطعاً ، وإن توجه لله أعرض عما سواه ، وراجع ما تقدم في قوله : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ } [ الأحقاف : 20 ] الآية . ويتبعون أيضاً ما تهوى الأنفُس الأمَّارة لأنها لا تهوى إلا ما فيه حظها وهواها ، ولقد جاءهم من ربهم الهُدى ، أي : مَن يهدي إلى طريق السلوك ، بقطع العلائق النفسانية والقلبية ، وهم خلفاء الرسول عليه السلام ، الدعوان إلى الله ، من شيوخ التربية في كل زمان ، أم للإنسان ما تمنى ، ليس له ما يتمنى إلا بسابق العناية ، فلا يُدرك العبدُ من الدنيا والآخرة ، ومن الله تعالى ، إلا ما سبق به القدر ، كما قال الشاعر : @ ما كل ما يتمنى المرءُ يُدركه تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ @@ فلله الآخرة والأولى ، قال القشيري : يُشير إلى قَهْرمَانيةِ الحق تعالى على العالم كله ، ملكه وملكوته ، الأخروي والدنيوي ، فلا يملك الإنسان من أمر الدارين شيئاً ، بل ملك الآخرة تحت تصرف يده اليمنى ، المتقضية لموجبات حصول الآخرة من الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة ، يهبه باسمه الواهب لمَن شاء أن يكون مظهراً للطفه وجماله ، وملك الدنيا تحت تصرف يده اليسرى ، المقتضية لأسباب حصول الدنيا ، من حب الدنيا الدنية ، المنتجة للخطيئة ومتابعة النفس الخبيثة ، وموافقة الطبيعة اللئيمة ، باسمه المقسط ، لمَن شاء أن يكون مظهر قهرِه وجلاله ، وليس ذلك يزيد في ملكه ، ولا هذا ينقص من ملكه ، وكلتا يديه ملأى سحّاء ، أي : فيّاضة . هـ . ثم نفى الشفاعة عَمَّن يستحقها من الملائكة الكرام ، فضلاً عمن لا يستحقها من الأصنام اللئام ، فقال : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } .