Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 53, Ayat: 42-62)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله في بقية ذكر ما في الصُحف الأُولى : { وأنَّ إِلى ربك المنتهى } أي : الانتهاء ، أي : ينتهي إليه الخلق ويرجعون ، إليه كقوله : { وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ] أو : ينتهي علم العلماء إليه ثم يقفون ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا فكرة في الرب " أي : كُنه الذات ، وسيأتي في الإشارة : { وأنه هو أضحكَ وأبكى } أي : خلق الضحك والبكاء ، أو : خلق الفرح والحزن ، أو : أضحك المؤمنين في الأخرة ، وأبكى الكافرين ، أو : أضحك المؤمنين في العُقبى بالمواهب وأبكاهم في الدنيا بالنوائب ، { وأنه هو أمات وأحيا } أي : أمات الآباء وأحياء الأبناء ، أو : أمات بالكفر وأحيا بالإيمان . { وأنه خلق الزوجين الذكرَ والأنثى من نُطفةٍ إذا تُمنَى } : إذ تدفق وتُدفع في الرحم . يقال : منى وأمنى ، { وأنَّ عليه النشأةَ الأخرى } الإحياء بعد الموت ، { وأنه هو أغنَى } أي : صيّر الفقير غنيّاً { وأَقْنَى } أي : أَعطى القِنْيَة ، وهو المال الذي تأثّلته ، وعزمت ألاَّ تُخرجه من يدك . { وأنه هو رَبُّ الشِّعْرى } وهو كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر ، وكانت خزاعة تعبدها . سنّ لهم ذلك " ابن أبي كبشة " رجل من أشرافهم ، قال : لأن النجوم تقطع السماء عرضاً ، والشعرى طولاً ، ويقال لها : شعرى العبور . انظر الثعلبي . وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن أبي كبشة ، تشبيهاً له صلى الله عليه وسلم به ، لمخالفته إياهم في دينهم ، فأخبر تعالى أنه ربّ معبودهم ، فهو أحق بالعبادة وحده . { وأنه أهلك عاداً الأُولى } وهم قوم هود ، وعاد الأخرى : عاد إرم ، وقيل : معنى الأولى العدمي لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح ، وقال الطبري وغيره : سميت " أُولى " لأن ثُمَّ عاداً آخرة ، وهي قبلية كانت بمكة مع العماليق ، وهم بنو لُقَيم بن هَزّال . والله أعلم . هـ . { قلت } : والتحقيق : أن عاداً الأولى هي عاد إرم ، وهي قبيلة هود التي هلكت بالريح ، ثم بقيت منهم بقايا ، فكثروا وعمّروا بعدهم ، فقيل لهم عاد الأخيرة ، وانظر أبا السعود في سورة الفجر . وها هنا قراءات ، وجَّهناها في كتاب الدرر . { وثَموداً } أي : وأهلك ثموداً ، وهم قوم صالح ، { فما أبقَى } أحداً منهم ، { وقمَ نوحٍ من قبلُ } وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود ، { إِنهم كانوا أظلمَ وأطغى } مِن عاد وثمود لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حِراك ، وينفرون منه حتى كانوا يُحذّرون صبيانهم أن يسمعوا منه ، { والمؤتفكةَ } أي : والقرى التي ائتفكت ، أي : انقلبت بأهلها ، وهم قوم لوط . يقال : أَفَكه فائتفك ، أي : قَلَبَه فانقلب ، { والمؤتفكة } منصوب بـ { أَهْوَى } أي : رفعها إلى السماء على جناح جبريل ، ثم أهواها إلى الأرض ، أي : أسقطها ، { فَغَشَّاها } ألبسها من فنون العذاب { ما غَشَّى } وفيه تهويل لما صبَّ عليها من العذاب ، وأمطر عليها من الصخر المنضود . { فبأي آلاءِ ربك } أيها المخاطب { تتمارَى } أي : تتشكك ؟ أي : فبأي نِعَمٍ من نِعَم مولاك تجحد ولا تشكر ؟ فكم أولاك من النِعم ، ودفع عنك من النِقم ، وتسمية الأمور المتعددة قبلُ نِعماً مع أن بعضها نقم لأنها أيضاً نِعَم من حيث إنها نصرة الأنبياء والمرسَلين ، وعظة وعبرة للمعتبرين . { هذا نذيرٌ } أي : محمد مُنذِّر { من النُذُرِ الأولى } من المنذِّرين الأولين ، وقال : " الأُولى " على تأويل الجماعة ، أو : هذا القرآن نذير من النذر الأولى ، أي : إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي إنذِر بها من قبلكم . { أَزِفَتِ الآزفةُ } أي : قربت الساعة الموصوفة بالقرب من قوله : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } [ القمر : 1 ] ، وفي ذكرها بعد إنذارهم إشعار بأنَّ تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة ، { ليس لها من دون الله كاشِفةٌ } أي : ليس لها نَفْس مبيّنة وقت قيامها إلاّ الله تعالى ، وهذا كقوله : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] أو : ليس لها نفس قادرة على كشف أهوالها إذا وقعت إلا الله تعالى ، فيكشفها عمن شاء ، ويُعذِّب بها مَن شاء . ولمَّا استهزؤوا بالقرآن ، الناطق بأهوال القيامة ، نزل قوله تعالى : { أفمن هذا الحديث تعجبون } إنكاراً ، { وتضحكون } استهزاءً ، { ولا تبكون } خشوعاً ، { وأنتم سامدون } غافلون ، أو : لاهون لاعبون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ، ليشغلوا الناس عن استماعه ، { فاسجدوا لله واعبدوا } ولا تعبدوا معه غيره ، من اللات والعزى ومناة والشعْرَى ، وغيرها من الأصنام ، أي : اعبدوا رب الأرباب ، وسارعوا له ، رجاء في رحمته . والفاء لترتيب الأمر بالسجود على بطلان مقابلة القرآن بالإنكار والاستهزاء ، ووجوب تلقيه بالإيمان والخضوع والخشوع ، أي : إذا كان الأمر كذلك فساجدوا لله الذي أنزله واعبدوه . الإشارة : { وأنَّ إلى ربك المنتهى } انتهى سير السائرين إلى الوصول إلى الله ، والعكوف في حضرته . ومعنى في حضرته . ومعنى الوصول إلى الله : العلم بأحدية وجوده ، فيمتحي وجود العبد في وجود الرب ، وتضمحل الكائنات في وجود المكوِّن ، فتسقط شفيعة الأثر ، وتثبت وترية المؤثِّر ، كما قال القائل : @ وبروْح وراح عاد شفعي وترى @@ وقال الآخر : @ فلم يبق إلا الله لم يبق كائنٌ فما ثَمَّ موصولٌ ولا ثم بائنُ بذا جاء برهان العيانِ ، فما أرى بِعيْنيَّ إلا عينه إذ أعاينُ @@ إلى غير ذلك مما غَنَّوا به من أذواقهم ووجدانهم . ثم قال تعالى : { وأنه هو أضحك وأبكى } أي : قبض وبسط ، أو : أنه أضحك أرواحاً بكشف الحجاب ، وأبكى نفوساً بذُل الحجاب ، أو : أضحك إذا تجلّى بصف الجمال ، وأبكى إذا تجلّى بصفة الجلال ، وأنه هو أمات قلوباً بالجهل والغفلة ، بمقتضى اسمه القهّار ، وأحيا قلوباً بالعلم والمعرفة ، بمقتضى اسمه الغفّار ، أو : أمات نفوساً عن شهواتها الفانية ، وأحيا سبب ذلك أرواحاً بكمال المعرفة فاتصفت بالأوصاف الربانية ، أو : أمات أرواحاً بغلبة ظلمة النفس واتسيلائها عليها ، وأحيا نفوساً باستيلاء الأرواح عليها ، وغلبة ونورها ، فحييت وانقلبت روحاً . وأنه خلق الزوجين ، أي : الصنفين : الذكر والأنثى ، الحس والمعنى ، الحقيقية والشريعة ، القدرة والحكمة ، كما تقدم . وقال القشيري : الروح كأنه ذَكَر موصوفة بصفة الفاعلية ، والنفْس أنثى موصوفة بصفة القابلية ، لتحصل نتيجة القلب ، بحصول المطالب الدنيوية والأخروية . هـ . مختصراً . وقال بعضهم : والشيطان كالذَكَر ، والنفس كالأنثى ، يتولّد بينهما المعصية . هـ . { وأنَّ عليه النشأة الأخرى } وهو بعث الأرواح من موت الغفلة ، وحشرها إلى موقف المراقبة والمحاسبة ، ثم إدخالها جنة المعارف ، فلا تتشاق إلى جنة الزخارف أبداً ، أو : { النشأة الأخرى } : الجذب بعد السلوك ، والفناء بعد البقاء ، ثم البقاء بعد الفناء ، البقاء الأول بوجود النفس ، والثاني بالله . وأنه هو أغنى به بوصول العبد إلى مشاهدته ، وأفنَى بأن مكَّنه منه فزاد غناه . وطبّل على ماله ، { وأنه هو رَبُّ الشِّعرى } ، وهو كل ما عُبد من الهوى والدنيا ، فكيف يعبد المربوب اللئيم ، ويترك الرب الكريم ؟ ! وأنه أهلك عاداً الأولى النفوس المتفرعنة ، والأهوية المُغوية ، أرسل عليهم ريحَ الهداية القوية ، حتى اضمحلت وخضعت لمولاها ، وثمودَ الخواطر ، فما أبقى منها إلا خواطر الخير ، التي تأمر بالخير ، وقوم نوح من القواطع الأربعة : النفس ، والشيطان ، والناس ، والدنيا ، فطعنهم عن المتوجه من قَبلُ ، أي : مِن قبل أن يتوجه إلينا ، لِما سبق في علمنا أنهم كانوا هم أظلم وأطغى من بقية العلائق ، والنفس المؤتفكة ، أي : المنقلبة عن التوجُّه ، أهوى بها في أسفل سافلين ، باعتبار أهل عليين ، فغشَّاها من الدنيا ومن الخواطر والهموم والغموم ، ما غشَّى . فإذا سَلِمتَ أيها العبد من هؤلاء القواطع والعلائق ، وتوجهتَ إلى مولاك ، { فبأي آلاء ربك تتمارى ؟ } بل الواجب عليك أن تشكر الله آناء الليل والنهار . هذا الذي أخذ بيدك نذيرٌ من النُذُر الأولى ، المتقدمين الداعين إلى الله في كل زمان ، أزفت الآزفة ، أي : قربت ساعة الفتح حين توجهت وانقطعت عنك العلائق ، ووجدتَ مَن يُدخلك بحرَ الحقائق ، ليس لها من دون الله كاشفة ، لا يكشف لك هذه الحقائق إلا الذي منَّ عليك بصحبة مَن يدلك عليه . قال القشيري : أزفت الآزفة : قَرُبَت الحقيقة بالقرب والدنو ، وأنت أيها السالك في عينها ، وما لك بها شعور ، لفنائك في أوصافك النفسانية ، هـ مختصراً . أفمن هذا الحديث العجيب ، والغزل الرقيق الغريب ، تعجبون ، إنكاراً ، وتضحكون استهزاءً ؟ قلت : وقد رأيت كثيراً ممن يُنكر الإشارة ، ويستهزئ بها ، ويتنكّب مطالعتها ، وقد قيل : مَن كَرِهَ شيئاً عاداه . ولا تبكون على أنفسكم ، حيث حُرمتْ من هذه المواهب ، وأنتم سامدون غافلون لاهون ، للدنيا طالبون ، فاسجدوا لله واعبدوا ، وتضرّعوا إليه ، حتى يُخرجكم من سجن هواكم ونفوسكم . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .