Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 53, Ayat: 33-41)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { أفرأيتَ الذي تولَّى } أعرض عن الإيمان { وأعطَى قليلاً وأكْدى } أي : قطع عطيته وأمسك ، وأصله : إكداء الحافر ، وهو أن تلقاه كُدْية - وهي صلابة ، كالصخرة - فيمسك عن الحفر . قال ابن عباس : " هو فيمن كفر بعد الإيمان " ، وقيل : في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتّبع رسولّ الله صلى الله عليه وسلم فعيّره بعضُ الكافرين ، وقال : تركتَ دين الأشياخ ، وزعمتَ أنهم في النار ؟ قال : إني خشيتُ عذاب الله ، فضمن له إن أعطاه شيئاً من ماله ، ورجع إلى شركه ، أن يتحمّل عنه عذاب الله ، ففعل ذلك المغرور ، وأعطى الذي عاتبه بعضَ ما كان ضمن له ثم بخل به ومنعه . { أعنده علْمُ الغيبِ فهو يَرى } أي : يعلم هذا المغرور أنَّ له حق ؟ { أم لم يُنَبَّأُ } يُخْبَر { بما في صُحف موسى } أي : التوراة ، { وإِبراهيمَ } أي : وما في صحف إبراهيم { الذي وفَّى } أي : أكمل وأتمّ ما ابتلي به من الكلمات ، أو : ما أُمر به ، أو بالغ في الوفاء بما عاهد اللّهَ عليه . وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفّى به . وعن عطاء بن السائب : عهد ألاَّ يسأل مخلوقاً ، فلما قذف في النار قال له جبريل : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا . وقال الشيخ المرسي : وفَى بمقتضى قوله : { حسبي الله } وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " وَفَّى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار " وهي صلاة الضحى . وروي : " ألا أخبركم لم سمّى خليلَه " الذي وفَّى " كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى : { فسبحان الله حين تُمسون … } إلى { تُظهرون } وقيل : وفَّى سهام الإسلام ، وهي ثلاثون ، عشرة في التوبة : { التَّآئِبُونَ } [ التوبة : 112 ] الخ ، وعشرة في الأحزاب : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ … } [ الأحزاب : 35 ] وعشرة في المؤمنين : { قد أفلح المؤمنون } . وقيل : وفي حيث أسلم بدنه للنيران ، وولده للقربان ، وطعامه للضيفان . ورُوي : أنه كان يوم يضيف ضيفاً ، فإن وافقه أكرمه ، وإلاَّ نوى الصوم ، وتقديم موسى لأنَّ صحفه وهي التوراة أكثر وأشهر . ثم فسّر ما في تلك الصُحف فقال : { ألاَّ تَزِرُ وَازرةٌ وِزْرَ أخرى } أي : أنه لا تحمل نفس وازرة وزر نفس أخرى ، بل كل نفس تستقل بحمل وزرها ، يقال : وزر يزر إذا اكتسب وِزراً ، و " أن " مخففة ، وكأنّ قائلاً قال : ما في صحف موسى وإبراهيم ؟ فقال : ألاَّ تحمل نفس مثقلة بوزرها وِزرَ نفس أخرى . { وأن ليس للإِنسان إِلا ما سَعَى } هو أيضاً مما في صحف موسى وإبراهيم ، وهو بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره ، إثر بيان عدم انتفاعه من حيث رفع الضرر عنه به ، وأما ما صحّ من الأخبار في الصدقة عن الميت والحج عنه ، فلأنه لمَّا نواه عنه كان كالوكيل عنه ، فهو نائب عنه . قال ابن عطية : الجمهور أنّ قوله : { وأن ليس للإِنسان إِلا ما سعى } مُحْكَمٌ لا نسخ فيه ، وهو لفظ عام مخصّص . هـ يعني : أن المراد : الكافر ، وهكذا استقرئ من لفظ " الإنسان " في القرآن ، وأما المؤمن فجاءت نصوص تقتضي انتفاعه بعمل غيره ، إذا وهب له من صدقة ودعاء وشفاعة واستغفار ، ونحو ذلك ، وإلاَّ لم يكن فائدة لمشروعية ذلك ، فيتصور التخصيص في لفظ " الإنسان " : وفي السعي ، بأن يخص الإنسان بالكافر ، أو السعي بالصلاة ، ونحو ذلك مما لا يقبل النيابة مثلاً . والحاصل : أن الإيمان سعي يستتبع الانتفاع بسعي الغير ، بخلاف من ليس له الإيمان . هـ قاله الفاسي : وكان عز الدين يحتج بهذه الآية في عدم وصول ثواب القراءة للميت ، فلما مات رؤي في النوم ، فقال : وجدنا الأمر خلاف ذلك . قلت : أما في الأجور فيحصل الانتفاع بسعي الغير ، إن نواه له ، وأما في رفع الستور ، وكشف الحجب ، والترقي إلى مقام المقربين ، فالآية صريحة فيه ، لا تخصيص فيها إذ ليس للإنسان من حلاوة المشاهدة والقُرب إلا بقدر ما سعى من المجاهدة . والله تعالى أعلم . ثم قال : { وأنَّ سَعْيَه سوف يُرى } أي : يعرض عليه ، ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه ، { ثم يُجزاه } أي : يجزى العبد سعيه ، يقال : جزاه اللّهُ عملَه ، وجزاه عليه ، بحذف الجار وإيصال الفعل ، ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسّره بقوله : { الجزاءَ الأوفى } أو : أبدله منه ، أي : الجزاء الأكمل بحيث يزيده ولا ينقصه . الإشارة : أفرأيتَ الذي تولى عن طريق السلوك ، بعد أن أعطى نفسه وفلْسَه ، وتوجه إلى حضرة مولاه ، ثم منَّته نفسُه ، وغرّته أنه يصل بلا عطاء ولا مجاهدة ، فقطع ذلك واشتغل بنفسه ، أو غرّه أحدٌ حتى ردَّه ، وضمن له الوصول ، بلا ذلك ، أعنده عِلمُ الغيب حتى عَلِمَ أنه يصل بلا واسطة ولا مجاهدة ؟ فهو يرى عاقبة ما هو سائر إليه . وتصدُقُ الإشارة بمن صَحِبَ شيخاً ، وأعطاء بعض ماله أو نفسه ، ثم رجع ومال إلى غيره ، فلا يأتي منه شيء ، أعنده علم الغيب ، وأنّ فتحه على يد ذلك الشخصن فهو يرى ما فيه صلاح وفساده ؟ وهذا إن كان شيخه أهلاً للتربية ، وإلاَّ فلا . أم لم يُنبأ هذا المنقطِع بما في صُحف موسى وإبراهيم ، أنه لا يتحمّل أحدٌ عن أحدٍ مجاهدة النفوس ورياضتها ؟ وأن ليس للإنسان من لذة الشهود والعيان إلا ما سعى فيه بالمجاهدة ، وبذل النفس والفلس ، وأنَّ سعيه سوف يُرى ؟ أي : يَظهر أثره من الأخلاق الحسنة ، والرزانة والطمأنينة ، وبهجة المحبين ، وسيما العارفين . وقسَّم القشيري السعي على أربعة أقسام : الأول : السعي في تزكية النفس وتطهيرها ، ونتيجته : النهوض للعمل الصالح ، الذي يستوجب صاحبه نعيمَ الجنان . الثاني : السعي في تصفية القلب من صَداء ظلمات البشرية ، وغطاء عورات الطبيعية ، ونتيجته : صحته من الأمراض القلبية ، كحب الدنيا والرئاسة والحسد ، وغير ذلك ، ليتهيأ لدخول الواردات الإلهية . الثالث : السعي في تزكية الروح ، بمنعها من طلب الحظوظ الروحانية ، كطلب الكرامات ، والوقوف مع المقامات ، وحلاوة المعاملات ، لتتهيأ بذلك للاستشراف على مقام المشاهدات ، وحمل أعباء أسرار الذات . الرابع : السعي في تزكية السر بتحليته بالصفات الإلهية ، والأخلاق الربانية ليتحقق بمقام الفناء والبقاء ، وهو منتهى السعي وكماله . هـ . بالمعنى . وإلى هذا الأنتهاء أشار تعالى بقوله : { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } .