Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 54, Ayat: 9-17)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { كذبت قبلهم } أي : قبل أهل مكة { قومُ نوح فكذَّبوا عبدنا } نوحاً عليه السلام . ومعنى تكرار التكذيب : أنهم كذَّبوا تكذيباً عقب تكذيب ، كلما خلا منهم قرن مكذِّب ، جاء عقبه قرن آخر مكذِّب مثله ، وقيل : كذبت قوم نوح الرسل ، { فكذَّبوا عبدنا } لأنه من جملتهم . وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع إضافته لنون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله ، وزيادة تشينع لمكذِّبيه ، { وقالوا مجنون } أي : لم يقتصروا على مجرد التكذيب ، بل نسبوه للجنون ، { وازْدُجِرْ } أي : زجر عن أداء الرسالة بالشتم ، وهدّد بالقتل ، أو : هو من جملة قولهم ، أي : قالوا : هو مجنون وقد ازدجرته الجن ، أي : تخبّطته وذهبت بلُبه . { فدعا ربَّه } حين أيس منهم { أني مغلوب } أي : بأني مغلوب من جهة قومي ، بتسليطهم عليّ ، فلم يسمعوني ، واستحكم اليأس من إجابتهم . قال القشيري : مغلوب بالتسلُّط لا بالحجة ، إذ الحجة كانت له . هـ . وهذا جار فيمن لم يستجب لك ، تقول : غلبني . ثم دعى عليهم بقوله : { فانتصرْ } فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم ، وذلك بعد تحقُّق يأسه منهم وعظم إذايتهم . فقد رُوي أن الواحد منهم كان يلقاه فيضربه حتى يغشى عليه ، فيقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . { ففتحنا أبوابَ السماء بما منهمرٍ } منصب بكثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً ، قال يمان : حتى طبق بين السماء والأرض ، وقيل : كانوا يطلبون المطر سنين ، فأُهلكوا بمطلوبهم . وفتح الأبواب كناية عن كثرة الأمطار ، وشدة إنصابها ، وقيل : كان في السماء يومئذ أبواب حقيقة . { وفجَّرنا الأرض عيوناً } وجلعنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من قولك : وفجرنا عيون الأرض ، ومثله : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] في إفادة العموم والشمول ، { فالتقى الماءُ } أي : مياه السماء ومياه الأرض ، وقرئ : " الماءان " ، أي : النوعان من الماء السمائي والأرضي . { على أمر قد قُدِر } أي : قُضي في أم الكتاب ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان ، أو : قدر أنّ الماءين يكون مقدارهما واحداً من غير تفاوت . قيل : كان ماء السماء بارداً كالثلج ، وماء الأرض مثل الحميم ، ويقال : إنّ الماء الذي نبع من الأرض نضب ، والذي نزل من السماء بَقِيَ حارّاً . { وحملناه على ذات ألواح } أي : أخشاب عريضة ، والمراد : السفينة ، وهي من الصفات التي تقوم مقام موصوفها كالشرح له ، وهو من فصيح الكلام ومن بديعه ، { ودُسُرٍ } ومسامير ، جمع : دسار ، وهو المسمار ، فِعال مِن : دسره : إذا دفعه لأنه يدسَر به مَنفذه . { تجري بأعيننا } أي بمرأىً منا ، أو : بحفظنا ، وهو حال من فاعل " تجري " ، أي : تجري محفوظة { جزاءً } مفعول له ، أي : فعلنا ذلك جزاءً { لمن كان كُفِرَ } وهو نوح عليه السلام ، وجعله مكفوراً لأن النبي نعمة من الله ورحمة ، فكان نوح نعمة مكفورة . وقرأ مجاهد بفتح الكاف ، أي : عقاباً لمَن كَفَرَ بالله . قيل : ما نجا من الغرق إلاَّ عُوج بن عُنُق ، كان الماء إلى حجزته ، وسبب نجاته : أنّ نوحاً احتاج إلى خشب الساج للسفية ، فلم يمكنه نقلها ، فحمل عُوج تلك الخشب إليه من الشام ، فشكر الله له ذلك ، ونجّاه من الغرق . قال الثعلبي . قلت : وقد تقدّم إبطاله في سورة العقود ، وأنه من وضع الزنادقة . ذكره القسطلاني . { ولقد تركناها } أي : السفينة ، أو : الفعلة ، أي : جعلناها { آيةً } يَعتبر بها مَن يقف على خبرها . وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة ، وقيل : على الجُوديَّ ، حتى رآها أوائل هذه الأمة . { فهل من مُّدَّكر } من متعظ يتعظ ويعتبر ، وأصله : مذتكر ، فأبدلت التاء دالاً مهملة ، وأدغمت الذال فيها لقرب المخرج ، { فكيف كان عذابي ونُذر } ؟ استفهام تعظيم وتعجيب ، أي : كان عذابي وإنذاري لهم على هيئة هائلة ، لا يُحيط بها الوصف ، والنُذر : جمع نذير ، معنى الإنذار . { ولقد يسَّرنا القرآنَ للذِكرِ } أي : سهّلناه للادّكار والاتعاظ بأن شحنَّاه بأنواع المواعظ والعِبر ، وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد ما فيه شفاء وكفاية . { فهل من مُّدّكِرٍ } ؟ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه ، أي : فهل من متعظ يقبل الاتعاظ ، وقيل : ولقد سهّلناه للحفظ ، وأعنّا مَن أراد حفظه ، فهل من طالب لحفظه ليُعان عليه ؟ قال القشيري : { ولقد يَسَّرنا القرآنَ للذكر } يسَّر قراءته على ألسنة قوم ، وعِلْمَه على قوم ، وفهمه على قلوب قوم ، وحِفْظه على قلوب قوم ، وكلهم أهل القرآن ، وكلهم أهل الله وخاصته . ويقال : كاشَفَ الأرواح من قومٍ قبل إدخالها في الأجساد ، فهل من مُدكر يذكر العهد الذي جرى لنا معه ؟ . هـ . ويروى : أن كتب أهل الأديان من التوراة في الإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظراً ، ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن ، وفي القوت : مما خصَّ اللّهُ به هذه الأمة ثلاثة أشياء : حفظ كتابنا هذا ، إلا ما ألهم اللّهُ عزيزاً من التوراة بعد أن كان بختنصّر أحرق جميعها ، ومنها : تبقية الإسناد فيهم ، يأثره خلف عن سلف ، متصلاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإنما كان يستنسخون الصُحف ، كلما خلقت صحيفة جُددت ، فكان ذلك أثرة العلم فيهم ، والثالثة : أن كان مؤمن من هذه الأمة يُسأل عن علم الإيمان ، ويُسمع قوله مع حداثة سنه ، ولم يكن مما مضى يسمعون العلم إلا مِن الأحبار والقسيسين والرهبان . وزاد رابعة : وهي ثبات الإيمان في قلوبهم ، لا يعتوره شك ، ولا يختلجه شرك ، مع تقليب الجوارح في المعاصي . وقد قال قوم موسى : { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً } [ الأعراف : 138 ] بعد أن رأوا الآيات العظيمة ، من انفلاق البحر وغيره . هـ . قال أبو السعود : وحمل تيسيره على حفظه لا يساعده المقام . هـ . الإشارة : في الآية تسلية لمَن أُوذي من الأولياء ، وإجابة الدعاء على الظالم ، لهم إن أُذن لهم في ذلك بإلهام أو هاتفٍ ، وإلاَّ فالصبر أولى ، وجعل القشيري نوحاً إشارة إلى القلب ، وقومَه جنود النفس ، من الهوى والدنيا وسائر العلائق ، فيكون التقدير : كذبت النفسُ وجنودُها القلبَ ، فيما يَرِدُ عليه من تجليات الحق ، وكشوفات الغيب ، وقالوا : إنما هو مجنون فيما يُخبر به ، فزجرته ، ومنعته من تلك الواردات الإلهية بظلمات شهواتها ، فدعا ربه وقال : أني مغلوب في يد النفس وجنودها ، فانتصِرْ لي حتى تغيبني عنهم ، ففتحنا أبواب سماء الغيب بأمطار الواردات الإلهية القهّارية ، لتمحق تلك الظلمات النفسانية ، وفجرنا أرض البشرية بعلوم آداب العبودية ، فالتقى ماء الواردات ، التي هي من حضرة الربوبية ، مع ماء علوم العبودية ، على أمر قد قُدر أنه ينصر القلب ، ويرقيه إلى حضرة القدس ، وحملناه على سفينة الجذب والعناية ، تجري بحفظنا ، جزاء لنعمة القلب التي كفرتْ به النفسُ وجنودُها ، ولقد تركنا هذه الفعلة آية يعتبر بها السائرون إلينا ، والطالبون لنا ، فهل من مدكر ؟ فكيف كان عذابي لمَن استولت عليه النفس وجنودها ؟ وكيف كان إنذاري من غم الحجاب ، وسوء الحساب ، ولقد يسَّرنا القرآن للذكر للاتعاظ ، فهل من مُدكر ، فينهض من غفلته إلى مولاه ؟ . ثم ذكر قصة عاد ، فقال : { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } .