Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 55, Ayat: 14-28)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { خَلَقَ الإِنسانَ } آدم { من صلصالٍ } من طين يابس ، له صلصلة ، أي : صوت { كالفَخَّار } كالطين المطبوخ بالنار وهو الخزف . ولا تخالف بين هذا وبين قوله : { مِّنْ حَمإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] و { مِّن طِينٍ لاَّزِب } [ الصافات : 11 ] لاتفاقهما معنىً ، لأنَّ المعنى : أنَّ أصل خلقه من تراب ، ثم جعله طيناً ، ثم حمأً مسنوناً ، ثم صلصالاً . { وخَلَقَ الجانَّ } أي : الجن ، او أبا الجن إبليس ، { من مَارجٍ من نار } والمارج هو اللهب الصافي ، الذي لا دخان فيه ، وقيل : المختلط بسواد النار ، من : مَرجَ الشي : إذا اضطرب أو اختلط ، و " مِن " : بيانية ، كأ ، ه قيل : مِن صاف النار ، أو مختلط من النار ، أو أراد : من نار مخصوصة . { فبأي آلاءِ ربكما تُكَذِّبان } مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم . قال القشيري : وكرّر سبحانه هذه الآية في غير موضع ، على جهة التقرير بالنعمة على التفاصيل . نعمة بعد نعمة ، ووجه النعمة في خلق آدم من طين : أنه رقّاه إلى رتبةٍ بعد أن خلقه من طين ، وكذلك القول في { مارج من نار } . هـ . يعني : أنَّ آدم رقّاه إلى رتبة الروحانية والخلافة ، والجن إلى رتبة التصرُّف الباطني في الآدمي وغيره . { ربُّ المشْرِقَين وربُّ المغربين } أي : مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ، ومَغْربيها . قال ابن الحشا : المشرق الشتوي : هو النقطة التي تطلع فيها الشمس فيها في الأفق في نصف دجنبر ، أقصر ما يكون النهار من أيام السنة ، والمشرق الصيفي : هو النقطة التي تطلع فيها الشمس في نصف يونية ، أطول ما يكون من أيام السنة . والمغربان : حيث تغرب في هذين اليومين ، ومشارق الشمس ومغاربها في سائر أيام السنة ليس هذين المشرقين والمغربين . هـ . وقوله : في نصف دجنبر ونصف يونية ، هذا في زمانه ، وأمّا اليوم فهي على ثمانية أيام ونحوها ، لزيادة حركة الإقبال . قال ابن عطية : متى وقع ذكر المشرق والمغرب فهو إشارة إلى الناحيتين ، أي : مشرق الصيف والشتاء ومغربهما . ومتى وقع ذكر المشارق والمغارب فيهو إشارة إلى تفصيل مشرق كل يوم ومغربه ، ومتى ذكر المشرقان فهو إشارة إلى نهايتي المشارق والمغارب لأنّ ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه . هـ . { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } قال القشيري : ووجه النعمة في مشرق الشمس ومغربها : جريانه على ترتيب بديع ليكمل انتفاع الخلق بذلك . هـ . { مَرَجَ البحرين يلتقيان } أي : أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين ، لا فصل بين الماءين بإسماك أحدهما عن الآخر في مرأى العين . قال في الحاشية : ويُقرب ما ذكره ما هو مشهود في الريف مع الماء ، فاعتبر به ، وبالأبيض من البيضة مع الأصفر منها ، وقيل : أرسل بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لانهما خلجان يتشعبان منه ، { بينهما برزخٌ } حاجز من قدرة ا لله تعالى ، { لا يَبغِيان } لا يتجاوزان حدّيهما ، ولا يبغي أحدُهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية ، أو : لا يتجاوزان حدّيهما بإغراق ما بينهما ، { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } وليس شيء منها يقبل التكذيب . { يَخْرُجُ منهما اللؤلؤُ والمَرجانُ } اللؤلؤ : الدرّ ، والمَرجان : الخرزُ الأحمر المشهور . قلت : هو شجر ينبت في الحجر في وسط البحر ، وهو موجود في بحر المغرب ، ما بين طنجة وسبتة . وقال الطرطوشي : هو عروق حُمر يطلع من البحر كأصابع الكف ، وشاهدناه بأرض المغرب مراراً . هـ . وقيل : اللؤلؤ : كِبار الدر ، والمرجان : صِغاره . وإنما قال : " منهما " وهما إنما يخرجان من الملح لأنهما لمّا التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يُقال : يخرجان منهما . ونقل الأخفش عن قوم : أنهما يخرجان من المالح والعذب ، وليس لِمن ردّه حجة قاطعة ، ومَن أثبت أَولى ممن نفى . هـ . قال أبو حيان : والظاهر خروجهما منهما ، وحكاه الأخفش عن قوم . هـ . { فبأي آلاء ربكما تُكَذَّبان } مع ظهور هذه النعمة . { وله الجوارِ } أي : السفن ، جمع : جارية ، { المُنشَئاتُ } المرفوعات الشُرَّع ، وقرأ حمزة ويحيى بكسر الشين ، أي : الرافعات الشُروع ، أي القلاع ، أو : اللاتي يُنشئن الأمواج بمَخْرهن { في البحر كالأعلام } كالجبال الشاهقة ، جمع عَلَم ، وهو الجبل الطويل ، { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } مِن خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها ، وكيفية تركيبها ، وإجرائها في البحر ، بأسباب لا يَقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه . { كُلُّ مَن عليها } على الأرض { فانِ ويبقى وجهُ ربك } أي : ذاته ، قال القشيري : وفي بقائه سبحانه خَلَفُ من كلِّ تلفٍ ، وتسليةٌ للمؤمنين عما يُصيبهم من المصائب ، ويفوتهم من المواهب . هـ . { ذو الجلال } ذو العظمة والسلطان ، { والإِكرام } أي : الفضل التام بالتجاوز والإحسان . وهذه الصفة من عظم صفات الله تعالى ، وفي الحديث : " ألظوا - أي : تعلقوا - بيا ذا الجلال والإكرام " يعني : نادوه به ، يُقال : ألظ بالمكان : إذا أدام به ، وألظ بالدعاء : إذا لزمه ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يُصلِّي ، ويقول : يا ذا الجلال والإكرام ، فقال : " قد استُجيب لك " { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } فإنَّ إفناءهم وإخراجهم من ضيق هذه الدار الدنية ، وإحياءهم وإبقاءهم في الدار الباقية في النعيم السرمدي من عظائم النِعم . الإشارة : اختص مظهَر الإنسان عن سائر المظاهر باعتدال خلقته ، لطافةً وكثافةً ، معنىً وحسّاً ، روحانيّاً وبشريةٌ ، فلذلك فاقت معرفته إذا عرف سائر المخلوقات ، بخلاف الجن والملائكة ، اللطافةُ غالبة عليهم ، فمَن كان منهم عارفاً لا تجده إلا متحرفاً ، غالباً عليه الهيمان والسُكْر ، وأمّا الآدمي فمَن غلبت رَوحانيتُه على صلصاليته ، ومعناه على حسه ، كان كالملائكة أو أفضل ، ومَن غلبت طينتُه على روحانيته ، وحسُّه على معناه ، كان كالبهائم أو أضل . وقوله تعالى : { رَبُّ المشرقين وربُّ المغربين } أي : رب مشرق شمس العرفان وقمر الإيمان ، ومغربهما عند غين الأنوار والأغيار . وقال القشيري : يُشير مشرق الروح والقلب ، ومغرب النفس والهوى . هـ . فإذا أشرق نور الروح والقلب غابت ظلمة النفس والهوى ، وإذا استولت ظلمة النفس والهوى على الروح والقلب غربت شمسهما ، { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } مع ما في ذلك في اللطائف الغامضة ، والغوامض الخفية ، من عدم سكون الروح والقلب إلى التجلِّي الجمالي ، وعدم اضطراب النفس والهوى بالتجلِّي القهري الجلالي لأنَّ الكامل من هذه الطائفة هو الذي يُشاهد الجمالَ في الجلال ، والجلالَ في الجمال ، فلا يسكن إلى شيء ، ولا يقف مع شيء . وقوله تعالى : { مَرَجَ البحرين يلتقيان } يُشير إلى بحر علم الشريعة ، وبحر علم الحقيقة ، يلتقيان في الإنسان الكامل ، { بينهما برزخ } وهو العقل ، فإنه يحجز الشريعةَ أن تعدو محلها ، والحقيقة أن تُجاوز محلها ، فالشريعة محلها الظواهر ، والحقيقة محلها البواطن ، والعقل برزخ بينهما ، يقوم بحُكم كل واحدة منهما ، فمَن خفَّ عقله غلبت إحداهما عليه ، إمّا الشريعة ، فيكون يابساً جامداً لا يخلو من فسوق ، وإمّا الحقيقة ، فيكون إما سكراناً أو زنديقاً . { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان ؟ } حيث هَدى العبدَ إلى القيام بحقهما ، وإنزال كل واحدة في محلها ، { يَخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } فيخرج من بحر الحقيقة جواهرَ الحِكم ويواقيت العلوم ، ومن بحر الشريعة مَرجان تحرير النقول ، وتحقيق مبانيها ، والإتيان بها من معادنها ، { فبأي آلاء ربكما تُكذَّبان } حيث وفَّق غوّاص بحر الحقيقة إلى استخراج أسرارها ، وغوّاص بحر الشريعة إلى إظهار أنوارها . { وله الجوارِ } ، أي : سفن الأفكار الجارية في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات . { المنشأت } في بحر الذات ، مع رسوخ عقلها ، كالجبل الراسي ، فتعوم سفنُ أفكار العارفين في بحر الجبروت وأنوار الملكوت ، ثم ترسي في مرساة العبودية ، للقيام بآداب الربوبية ، { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } مع عظيم هذا اللطف الكبير ، والمنَّة الكريمة ، حيث يتلاطم عليهم أموَاجُ بحر الذات ، فيكونوا من المغرقين في الزندقة ، أو ذهاب العقل بالكلية ، لكن مَنْ صَحبَ رئيسا عارفاً لا يخاف من الغرق إن شاء الله . { كلُّ مَن عليها فانٍ } كل مَنْ على بساط المملكة فَانٍ متلاشٍ ، { ويبقى وجه ربك } أي : ذاته المقدسة ، فلا موجود معها على الحقيقة ، كما قال الشاعر : @ فَالْكُلُّ دُونَ اللَّه إِنْ حَقَّقْتَه عَدمٌ عَلَى التَّفْصِيل والإجمال @@ وهذا معلوم عند أرباب الأذواق ، مُقرر عند أهل الفناء والبقاء ، فلا يجحده إلاَّ جهول ، كما قال تعالى : { فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان } ؟ . وذكر شؤونه تعالى في خلقه ، فقال : { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } .