Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 55, Ayat: 29-40)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { يَسْألُه مَن في السماوات والأرض } مِن ملَكٍ وإنسٍ وجن وغيرهم ، لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه ، كل منهم يسأل حاجته ، إما بلسان مقاله ، أو بلسان حاله ، أهل السموات يسأله قوت أرواحهم ، وأهل الأرض قوتَ أشباحهم وأرواحهم . وقال أبو السعود : فإنهم كافة ، من حيث حقائقهم الممكِنة ، بمعزلٍ من استحقاق الوجود ، وما يتفرّع عليه من الكمالات بأسره ، بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشمُّوا رائحة الوجود أصلاً ، فهم في كل أمر مستمدون على الاستدعاء والسؤال . هـ . ويُوقف على قوله : { والأرض } ثم يبتدأ بقوله : { كُلَّ يومٍ } فهو ظرف لقوله : { هو في شأن } أي : هو كائن كل وقت وحين في شأنٍ من شؤون خلقه ، التي من جملتها : إعطاؤهم ما سألوا ، فإنه تعالى لا يزال يُنشئ أشخاصاً ، ويُفني آخرين ، ويأتي بأحوالٍ ويذهب بأحوالٍ ، حسبما تقتضيه مشيئته ، المبنية على الحِكَم البالغة ، وسمعتُ شيخنا الفقيه العلاّمة ، سيدي " التاودي بن سودة " - رحمه الله - يقول في تفسيرها : إنَّ من شؤونه تعالى أنه كل يوم يُجهّز ثلاثة جيوش : جيشاً إلى الأرحام ، وجيشاً إلى الدنيا ، وجيشاً إلى المقابر . هـ . وعن ابن عيينة : الدهر عند الله يومان ، أحدهما : اليوم الذي هو مدة الدنيا ، فشأنه فيه : الأمر والنهي ، والإحياء والإماتة ، والإعطاء والمنع ، والآخر : يوم القيامة ، فشأنه فيه : الجزاء والحساب . و " رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه تلاها ، فقيل له : ما هذا الشأن ؟ فقال : " من شأنه أن يغفر ذنباً ، ويفرّج كرباً ، ويرفع قوماً ويضع آخرين " وقيل : نزلت في اليهود حين قالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً ، فردّ الله عليهم والمراد بهذه الشؤون : أمور يُبديها ولا يبتديها ، فقد جفّ القلم بما هو كائن إلى ما لا نهاية له . ومنه : ما جاء في القضاء على الولد في الرحم ، بسعادةٍ أو غيرها ، ليس ذلك القضاء إنشاء وابتداء ، وإنما هو إبداء وإظهار للملائكة ما سبق به قضاؤه وقدره ، وهو مسطور في اللوح ، ولذلك جاء : " إنه يُقال للملك : انطلق إلى أم الكتاب ، فينطلق ، فيجد قصة ذلك فيه … " الحديث . وقيل : شأنه تعالى : سَوْق المقادير إلى المواقيت . قال النسفي : قيل : إنَّ عبد الله بن طاهر دعا الحسينَ بن الفضل ، وقال له : أشكلت عليّ ثلاث آيات ، دعوتك لتكشفها لي ، قوله تعالى : { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } [ المائدة : 31 ] وقد صحّ : أن الندم توبة ، وقوله : { كل يوم هو في شأنٍ } وقد صحّ أن القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وقوله : { وَأَن لَّيْسَ للإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } [ النجم : 39 ] فما بال الأضعاف ؟ فقال الحسين : يجوز ألاَّ يكون الندم توبة في تلك الآية . وقيل : إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ، ولكن على حمله وتكلفه مشقته ، وقوله : { وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى } مخصوص بقوم إبراهيم وموسى - عليهما السلام - ، وأمَّا قوله : { كل يوم هو في شأن } فإنها شؤون يُبديها لا يبتديها ، فقال عبدُ الله فقبَّل رأسه ووسّع خراجه . هـ . { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } مع مشاهدتكم لما ذكر من شؤون إحسانه تعالى . { سَنَفْرُغ لكم أيه الثقلانِ } سنتجرّد لحسابكم وجزائكم ، مستعار من قول الرجل لمَن يتهدّده : سأفرغ لك ، أي : سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك ، ويجوز أن يُراد : ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها ، وينتهي عند ذلك شؤون الخلق ، التي أرادها بقوله : { كل يوم هو في شأن } فلا يبقى إلاَّ شأن واحد ، وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل ، و " الثقلان " : الجن والإنس ، سُمّيا بذلك لثقلهما على الأرض ، أو : لرزانة آرائهما ، أو : لأنهما مُثقلان بالتكليف ، { فبأي آلاء ربكما } التي من جملتها : التنبيه على ما يلقونه يوم القيامة ، للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب ، { تُكذِّبان } بأقوالكما أو بأعمالكما . { يا معشرَ الجنِّ والإِنس } هو كالترجمة لقوله : " أيه الثقلان " { إِن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرضِ } بأن تهربوا من قضائي ، وتخرجوا من ملكوتي ، ومن أقطار سماواتي وأرضي ، { فانفذوا } وخلِّصوا أنفسكم من عقابي ، { لا تنفُذون } لا تقدرون على النفوذ { إِلاَّ بسلطانٍ } إِلاّ بقوةٍ وقهرٍ ، وأنتم من ذلك بمعزل بعيد . قيل : يُقال لهم هذا يوم القيامة ، حين تُحدق بهم الملائكة ، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا ، فلا يأتون وجهاً إلاّ وجدوا الملائكة أحاطت به . { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } التي من جملتها : التنبيه والتحذير ليقع التأهُّب لتلك الأهوال . { يُرْسَلُ عليكم شُواظ من نارٍ } أي : لهب خالص منها . وفيه لغتان : ضم الشين وكسرها ، { ونُحاسٌ } أي : دخان ، مَن رفعه عطفه على " شواظ " ومَن جرّه فعلى " نار " ، والمعنى ، إذا خرجتم من قبوركم يُرسل عليكم لهب خالص من النار ، ودخان يسوقكم إلى المحشر ، { فلا تنتصرانِ } فلا تمنعان منهما ، { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } فإنَّ بيان العواقب لُطفٌ ونعمةٌ لمَن ينتبه . { فإِذا انشقت السماءُ } أي : انصدعت يوم القيامة { فكانت وَرْدَةً } فصارت كلون الورد الأحمر { كالدِّهان } كدهن الزيت ، كما قال : { كَالْمُهْلِ } [ المعارج : 8 ] وهو دُردِيّ الزيت ، وهو جمع دهن ، وقيل : الدهان : الأديم الأحمر . وجواب " إذا " محذوف ، أي : يكون من الأهوال والأحوال ما لا يحيط به دائرة المقال . قلت : وهذا الانشقاق يحصل للسموات والناسُ في المحشر ، ثم تدنو الشمس من الخلائق ، فيعظم الخطب والهول ، إلاّ ما استثني في حديث السبعة . وقيل : يحصل قبل البعث ، كما في البدور السافرة . والله أعلم بحقيقة الأمر . { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } مع عِظم شأنها ، { فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إِنس ولا جانٌّ } لأنهم يُعرفون بسيماهم وذلك أول ما يخرجون من القبور ، ويُحشرون إلى الموقف أفواجاً على اختلاف مراتبهم ، وأمّا قوله تعالى : { فوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] ونحوه ففي موقف المناقشة والحساب ، فيوم القيامة يوم طويل ، وفيه مواطن ، يُسألون في موطن ، ولا يُسألون في آخر . وقال قتادة : قد كانت مسألة ، ثم ختم على أفواه القوم . وقيل : لا يُسأل ليَعلم من جهته ، ولكن يُسأل للتوبيخ . وضمير { ذنبه } للإنس لتقدُّمه رتبة ، وإفراده لأنّ المراد فرد من الإنس ، والمراد بالجان الجن ، فوضع الجان - الذي هو أبو الجن موضع الجن ، كأنه قيل : لا يُسأل عن ذنبه أنسي ولا جني ، { فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان } مع كثر منافعها فإنَّ الإخبار بما ذكر يزجركم عن الشر المؤدي إليه . الإشارة : يسأله مَن في سماوات الأرواح ما يليق بروحانيته ، من كشف الأسرار ، وتوالي الأنوار ، فهو دائم سائل مفتقر ، لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، وسؤاله إما بلسان حاله أو مقاله ، ويسأله مَن في أرض البشرية ممن لم يترقّ إلى عالم الروحانية ما يليق بضعف بشريته ، من القوت الحسي ، وما يلائمه من ضرورية البشرية ، أو يكون سبب نجاته ونعيمه يوم القيامة ، من الاستقامة الظاهرة . وأشار بقوله : { كل يوم هو في شأن } إلى اختلاف تجلياته في كل لحظة ، فيتجلّى في ساعة واحدة بقبض قوم وبسط آخرين ، ورفع قوم وذلّ آخرين ، وإعطاء قوم ومنع آخرين ، وترقية قوم وخفض آخرين ، إلى ما لا نهاية له ، ولذلك تختلف الواردات على قلوب العارفين ، ينسخ بعضها بعضاً ، ولذلك أيضاً تجد العارفين لا يسكنون إلى شيء ، ولا يقفون مع شيء ولا يُعولون على شيء ، بل ينظرون ما يبرز من عنصر القدرة ، فيسيرون معه ، إذا أصبحوا نظروا ما يفعل الله بهم ، وإذا أمسوا كذلك ، قد هدمت المعرفة أركانَ عزائمهم ، وحلّت عقدهم ، فهم في عموم أوقاتهم لا يُريدون ولا يختارون ولا يُدبّرون لعِلمهم أن الأمر بيد غيرهم ، ليس لهم من الأمر شيء . وقوله تعالى : { سنفرغ لكم أيه الثقلان } فسّر القشيري الثقلين بالروح وصفاتها الحميدة ، وبالنفس وصفاتها الذميمة ، أي : سنفرغ لإكرامكم ، ورفع أقداركم يا معشر الأرواح المطهرة ، بأن أتجلّى لكم ، فتُشاهدوني في كل وقت وحين ، وسنفرغ لكم أيتها النفوس الظلمانية بأنواع الامتحان بصُنوف المحن ، فلا تدخلوا جنتي حتى تتهذبوا وتصفوا من كدرات الأغيار ، ولا أتجلّى لكم إلاّ في وقت الاحتياج والاضطرار . والحاصل : أنَّ المدار كله على هذه الدار ، فمَن صفا هنا صُفي له ثَمّ ، ومَن كدر هنا كدر عليه هناك . ويُقال لأهل النفوس الظلمانية : { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض } بفكرة بصائركم فانفذوا ، ولا قدرة لكم على ذلك لسجن أرواحكم في هياكل ذواتكم ، وإحاطة دائرة الكون بكم ، لا تنفذون إلاّ بسلطانٍ : إلاّ بقوة سلطان أرواحكم على نفوسكم ، فتجذبها إلى عالم الروحانية ، بصحبة طبيب ماهر ، فحيئذ تنفذ بصيرتكم عن دائرة الأكوان ، وتُفضوا إلى فضاء العيان ، وإذا كان يوم القيامة خرقت أرواحُهم بأشباحهم محيطاتِ الأكوان ، وأَفضوا في الهوى إلى سعة الجنان ، قال تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِين } [ الشعراء : 90 ] ، وقد تقدّم معناه . { يُرسل عليكم شُواظ من نار ونُحاس … } الخ ، قال القشيري : يُخاطب معشر جن النفس بإرسال لهب البُعد والقطيعة عليهم ، بواسطة انغماسهم وانهماكهم في استيفاء اللذات الجسمانية ، والشهوات الحيوانية ، على الدوام والاستمرار ، ويُخاطب معشر إنس الروح بصب الصُفر المذاب على رؤوسهم ، بسبب انحطاطهم من المقام الروحي العلوي ، إلى المقام النفس السفلي بالتراجع ، ولا يقدر أحدهما على نصرة الآخر . { فبأي آلاء ربكما تُكذّبان } فإنَّ تعذيب مستحق العذاب ، وتنعيم متسحق النعيم ، والتمييز بين جن النفس العاصي ، وبين إنس الروح ، من الآلاء العظيمة . هـ . فإذا انشقت السماء الحسية ، أي : ذابت وتلاشت بذكر اسم الله عليها من العارف ، فكانت وردةً يهب بنسيم المعاني من أكنافها ، كالدهان : كالزيت المُذاب ، حين تذوب بالفكرة الصافية ، والحاصل : أنَّ سائر الكائنات ، تذوب وتتلطّف حين تستولي عليها المعاني القائمة بها ، { فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان } مع ظهور هذه النعمة العظيمة ، التي خَفِيَتْ عن جُلّ الناس ، { فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان } ممن بلغ منهم إلى هذه المرتبة العظيمة ، فأهل العيان لم يبقَ في حقهم طاعة ولا عصيان ، فلا يتوجه إليهم سؤال ولا عتاب ، وفي مناجاة الحق لسيدنا موسى عليه السلام : لا يا موسى إنما يُطيعني ويعصيني أهل الحجاب ، وأما مَن لا حجاب بيني وبينه فلا طاعة في حقه ولا معصية . وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : يبلغ الوليّ مبلغاً يُقال له : افعل ما شئت ، أصحبناك السلام ، وأسقطنا عنك الملامة . هـ . وهذا بعد محق أوصاف النفس ، وبعد التحقق بالفناء والبقاء . والله تعالى أعلم . ثم ذكر ما أعدّ لأهل الانتقام ، فقال : { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ } .