Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 55, Ayat: 62-78)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { ومِن دونهما جنتانِ } أي : ومن دون تَيْنِك الجنتين الموعودتين للمقربين { جنتان } أخريان لِمن دونهم من أصحاب اليمين ، ويؤيده حديث أبي موسى ، قال في هذه الآية . { ولمن خاف مقام ربه } قال : " جنتان من ذهب للسابقين ، وجنتان من وَرِق لأصحاب اليمين " ورَفَعه ، ولا شك أنَّ الذهب أرفع من الوَرِق ، فلا يلتفت إلى الفضة مَن له الذهب ، خلافاً لمن قال : يلزم حرمان أهل الطبقة الأولى - وهم السابقون - ما ذكر في الحديث من الفضة ، واختار في نوادر الأصول أنَّ قوله : { ومن دونهما } أي : في القُرب إلى العرش ، وأنَّ هذه أعلى وَصْفاً مما ذكر قبلُ ، إلى العرش ، وبَسَطَ القول في ذلك ، ومثله ذكره ابن عطية عن ابن عباس ، واحتج لذلك ، ولكن الأكثرعلى خلاف ذلك ، وسيأتي بيانه إن شاء الله . { فبأي آلاء ربكما تُكّذِبان مُدْهامَّتان } خضراوان تميلان إلى السواد ، من شدة الخضرة ، وفيه إشعار بأنَّ الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض ، وعلى الأُوليين الأشجار والفواكه ، ومَن اشتهى فيها شيئاً يُعطاه ، { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } كرر التوبيخ مع ذكر الموصوف ومع صفته تنبيهاً على أنّ تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار ، { فيهما عينان نَضَّاختان } فوّارتان بالماء ، والنضخ أكثر من النضح - بالمهملة - وهو الرش ، { فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان } . { فيهما فاكهةُ ونخلٌ ورمانٌ } عطف الأخيرين على الفاكهة عطف خاص على عام لفضلهما ، فإنَّ ثمر النخل فاكهة وغذاء ، والرمان فاكهة ودواء . قال أبو حنيفة : مَن حَلَفَ لا يأكل فاكهة فأكل رُماناً أو رطباً لم يحنث ، وقوفاً مع ظاهر العطف ، وعندنا الأَيمان مبنية على الأعراف ، وهي تختلف باختلاف الأقطار . { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } ولا شيء منها يقبل الإنكار . { فيهنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ } أي : في الجنتين المشتملتين على قصور ومساكن نساء { خيرات } أي : فاضلات الخُلُق ، حِسان الخَلْق ، وهو مخفف من " خير " بالتشديد ، وقرئ خيِّرات على الأصل ، { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } . { حُورٌ } بدل من " خيرات " { مَقصوراتٌ في الخيام } قُصِرن في خدورهن . يقال : امرأة قصيرة وقَصُورة ، ومقصورة ، أي مخدّرة ، أو : مقصورات الطرف على أزواجهن ساكنة في الخيام . قال القشيري : قصرن أنفسَهن وقلوبَهن وأبصارَهن على أزواجهن . هـ . يقلن : نحن الناعماتُ فلا نبأس ، الخالداتُ فلا نَبيدُ ، الراضيات فلا نَسْخَط . وفي خبر : أن عائشة قالت : " إنَّ المؤمنات أجَبْنَهُنَّ ، نحن المُصلِّياتُ وما صلَّيْتُنَّ ، نحن الصائمات وما صُمتُنَّ ، نحن المتصدِّقاتُ وما تصدَّقْتنَّ ، قالت عائشة : فغلبنهن " . والخيام من الدر المجوف ، { فبأي آلاء ربكنما تُكَذِّبان } . { لم يَطْمِثْهُن إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } . { متكئين } نصب على الاختصاص ، { على رَفْرَفٍ } هو كل ثوب عريض ، وقيل : هو الوسائد ، والأظهر من الحديث أنه سرير مفروش بثياب خُضر ، يركب فيه أهل الجنة ، ويسير بهم حيث شاؤوا ، وقوله : { خُضْرٍ } ، وصف لرفرف لأنه مُحلّى بثيابٍ خُضر ، والرفرف : إما اسم جنس ، أو اسم جمع ، واحده : رفرفة . { وعبقريٍّ حِسَانٍ } أي : طنافس ، وهي جياد البُسط ، كالزرابي وشبهها . والعبقري : منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنه اسم بلد الجن ، يسبون إليه كل شيء عجيب . وقال أبو عبيد : هو منسوب إلى أرض يُعمل فيها الوَشي ، فينسب إليها كل مبالغ في الوصف ، وقال الخليل : كل جليل فاضل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب عبْقري ، ومنه " قوله صلى الله عليه وسلم في عمر : " فلم أرَ عَبْقريّاً من الناس يَفْرِي فَرْيَه " والمراد به الجنس ، ولذلك وصفه بالجمع ، { فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان } قال النسفي : وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل : [ ومن دونهما ] لأنَّ { مدهامتان } دون { ذواتا أفنان } ، و { نضّاختان } دون { تجريان } ، و { فاكهة } دون { من كل فاكهة زوجان } ، وكذلك صفة الحور والمتّكأ . هـ . { تبارك اسمُ ربك } أي : تنزّه وتقدّس ، أو تكاثر خيره . وفيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام ، { ذي الجلال } ذي العظمة . وقرأ الشامي بالرفع ، صفة لاسم ، { والإكرام } لأوليائه بالإنعام . قيل : لمَّ ختم تعالى نِعم الدنيا بقوله : { ويبقى وجهُ ربك ذي الجلال والإِكرام } ختم نِعم الآخرة بقوله : { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } وناسب هذا ذكر البقاء والديمومية له تعالى ، إذ ذكر فناء العالم ، وناسب هنا ذكر ما امتنّ به من البركة ، وهي الخير والزيادة ، إذ جاء ذلك عقب ما امتنّ به على المؤمنين ، وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته . روَى جابر " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن ، فقال : " ما لي أراكم سكوتاً ، لَلْجِنُّ كانوا أحسن منكم ردّاً ، ما أتيتُ على قول الله : { فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان } إلاَّ قالوا : ولا شيء من نعمك ربنا نكذِّب ، فلك الحمد ولك الشكر " . وكررت هذه الآية في هذه السورة إحد وثلاثين مرة ، ذُكرت ثمانية منها عقب آيات فيها عجائب خلق الله ، وبدائع صنعه ، ومبدأ الخلق ومعادهم ، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها ، على عدد أبوب جهنم ، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلها ، على عدد أبوب الجنة ، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما ، فمَن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فُتحت له أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم . قاله النسفي . الإشارة : ومن دون جنتي أهل المقربين جنتا أهل اليمين ، وهما جنة حلاوة الطاعة وكمال الاستقامة ، أو حلاوة المعاملات وظهور الكرامات ، أو حلاوة المناجاة وحصول المداناة ، أو : جنة مُعجَّلة في البرزخ لأرواحهم ، وأخرى بعد البعث لأشباحهم ، وهذا يجري أيضاً في حق المقربين . وقوله : { مُدْهامتان } شديدة خضرتها لانَّ النظر إلى الخضرة أمْيَلُ ، وكذلك أهل العبادة الظاهرية حين يجدون حلاوتها ، ويقفون معها ، ترمُقهم أبصار العامة بالتعظيم والتكريم ، فربما يجنون بعض جزاء أعمالهم ، بخلاف أهل الباطن ، أهل الفناء والبقاء ، لا ترى منهم إلاّ النيران لفرارهم من الخلق ، ولخفاء عبادتهم بين فكرة ونظرة ، فيهما عينان نضاختان فوارتان بالعلوم الظاهرة التي أثمرتها التقوى ، لقوله تعالى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [ البقرة : 282 ] ، وكثرة العلوم كمال عند أهل الظاهر ، ولا يعتبره أهل الباطن إذ المدار عندهم على الأذواق والوجدان ، وتحقيق عين العيان . وفي كتاب شيخ شيوخنا ، سيدي " عليّ العمراني " رضي الله عنه قال : علم الحرب وما جرى بينهم إنما يوجد عند المستشرف على المعركة ، وأمّا المباشِر للحرب فهو في شغل شاغل عنه . فيها فاكهة ، أي : تفنُّن في تحقيق المسائل ، ونخل تضلُّع من علم الحديث ، ورُمان تغلغل في التفسير ، أو : فيهما فاكهة تحقيق علم المعاملة ، ونخل تحقيق علم الاعتقادات المجازية ، ورمان تمسك بعلم التصوُّف ، الذي هو دواء القلوب ، فيهن خيرات حسان في تلك الجنان أخلاق حسان ، وهي ثمرة العلم النافع ، حور مقصورات في الخيام ، أي : تلك الأخلاق الطيبة مقصورة على قلوب أهل الصفا ، لا تظهر إلا لهم ، أو : في تلك الجنان الذي هي القلوب ، علوم غريبة ، لم تكشف لغيرهم ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان لم يفك انغلاقها أحد قبلهم . وفي التسهيل : وإذا كانت العلوم مِنحاً إلهية ، ومواهب اختصاصية ، فغير مستبعد أن يدخر لكثير من المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين . هـ . متكئين على رَفرفٍ ، أي : بساط فكرة الاعتبار ، يستخرج بها جواهر العلوم ، ووصفه بالخضرة لظهور أثر فكرهة الاعتبار بما تجليه من العلوم ، وفي الحديث : " ساعة من العالِم يتفكر في علمه خير من عبادة الجاهل ألف سنة " أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، وكذلك وصفه بالعبقرية والجَودة لكماله في محله . { تبارك اسم ربك } أي : تعاظم قدره { ذي الجلال والإكرام } حيث مَنَّ بهذه النعم الجِسام على الفريقين ، وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم ، وصلّى على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم .