Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 55, Ayat: 46-61)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { ولِمَنْ خافَ مقامَ ربه } أي : قيامه بين يديه للحساب { يوم يقوم الناس لرب العالمين } أو : قيامه تعالى على أحواله ، من : قام عليه ، إذا راقبه ، كقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] . قال مجاهد : هو الرجل يهم بالمعصية ، فيذكر الله تعالى ، فيدعها من خوفه . قال السدي : شيئا ، مفقودان : الخوف المزعج ، والشوق المقلق . هـ . أي : للخائف { جنتانِ } أي : بستانان من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، مسيرة كل بستان : مائة سنة . وقال صلى الله عليه وسلم : " هل تدرون ما هاتان الجنتان ؟ هما بستانان في بستانين ، قرارهما لابث ، وفرعهما ثابت ، وشجرهما نابت " ، أَكْرَم بهما المؤمن ليتكامل سروره بالتنقُّل من جنة إلى جنة ، وقيل : جنة لخوفه وجنة لتركه شهوته ، أو : جنة لعقيدته وجنة لعمله ، أو : جنة لفعل الطاعة وجنة لتركه المعصية ، أو : جنة يُثاب بها وجنة يُتفضل عليه بها ، أو : روحانية وجسمانية ، أو : جنة للسابقين وجنة لأهل اليمين ، أو : جنة للإنس وجنة للجن لأنّ الخطاب للثقلين ، كأنه قيل : لكل خائف منكما جنتان . والأول أرجح ، وسيأتي في الإشارة بقيته ، { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } . ثم وصف تلك الجنتين بقوله : { ذَوَاتا أفَنانٍ } أغصان ، جمع " فَنن " ، وخصّ الأفنان لأنها هي التي تُورق ، ومنها تُجنى الثمار ، وتعقد الظلال ، أو جمع فَنّ ، بمعنى النوع ، أي : ذواتا أنواع من الأشجار والثمار ، مما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، { فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان } وليس فيها شيء يقبل التكذيب . { فيهما } أي : في الجنتين { عينانِ تجريان } حيث شاؤوا إلى الأعالي والأسافل . وعن الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما : التسنيم ، والأخرى : السلسبيل ، وقيل : بالماء والخمر ، { فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان } ، { فيهما من كل فاكهةٍ زوجان } صنفان ، صنف معروف وصنف غريب ، أو رطب ويابس . { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } . { متكئينَ } نصب على المدح للخائفين ، أو : حال منهم لأنّ مَن خاف في معنى الجمع ، { على فُرُش بطائنُها من إِستبرقٍ } من ديباج ثخين ، وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظاهرها ؟ وقيل : ظاهرها سُندس ، وقيل : من نور ، وقيل : لا يعلمها إلاّ الله . والبطائن : جمع بطانة ، وهو : ما يلي الأرض ، والإستبرق معرَّب ، { وجَنَى الجنتين دانٍ } أي : ما يجتنى من أشجارها من الثمار قريب ، يناله القائم والقاعد والمضطجع . قال ابن عباس رضي الله عنه : تدنو الشجيرة حتى يجنيها وليُّ الله ، إن شاء قائماً ، وإن شاء قاعداً ، وإن شاء مضطجعاً . قال القشيري : وفي الخبر المسند : " مَن قال سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، غرس له بها ألف شجرة في الجنة ، أصلها الذهب ، وفرعها الدر ، وطلعها كثدي الأبكار ، ألين من الزبد ، وأحلى من العسل ، كلما أُخذ منها شيء عاد كما كان ، وذاك قوله تعالى : { وجَنَى الجنتين دانٍ } إذا أرادوه أتى إلى أفواههم ، حتى يتناولون من غير مشقة ، ويقال : ينالها القائم والقاعد والنائم . هـ . { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } ، { فيهن } أي : الجنتين لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس ، أو : في هذه الآلاء المعدودة ، من الجنتين والعينين والفاكهة والغرس والجَنْي ، { قاصراتُ الطَّرْفِ } جَوار قَصَرْنَ أبصارَهنّ على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم ، { لم يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ } أي : لم يمس الإنسيات أحدٌ من الإنس ، ولا الجنيات أحدٌ من الجن . والطمث : الجماع بالتدمية . وفي الآية دليل على أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس . { فبأي آلاء رَبكما تُكذِّبان كأنهنَّ } أي : تلك الجوار { الياقوتُ } صفاءً { والمَرْجانُ } بياضاً ، على أنَّ المرجان صغار الدر ، أو : في الصفاء وحُمرة الوجه . قيل : إنَّ الجواري تلبس سبعين حلة ، فيُرى مُخ ساقها من ورائها ، كام يرى الشراب الأحمر في الزجاجة . { فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان } . { هل جزاءُ الإِحسان إِلاَّ الإِحسانُ } هو استئناف مقرر لما فصّل قبله ، أي : ما جزاء الإحسانِ في العمل إلاّ الإحسانُ في الثواب ، قال أنس : قرأها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قال : هل جزاءُ مَن أنعمتُ عليه بالتوحيد إلاّ الجنة " وفي لفظ آخر : " هل جزاء مَن أنعمت عليه بتوحيدي ومعرفتي إلاّ أن أُسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي " أو : هل جزاء مَن قال " لا إله إلا الله " إلاَّ الجنة . قال السدي : هل جزاء الذين أطاعوا في الدنيا إلاّ الكرامة في الآخرة . وقال جعفر الصادق : هل جزاء مَن أحسنتُ إليه في الأزل إلاَّ حفظ الإحسان عليه في الأبد . قال الحسن : هي مسجلة - أي مطلقة - للبر والفاجر ، للفاجر في دنياه ، وللبَر في عُقباه . هـ . { فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان } . الإشارة : { ولمن خاف مَقام ربه } فرَاقَبه ، ثم شاهَده ، { جنتان } جنة المعارف مُعجّلة ، وجنة الزخارف معها مُؤجلة ، أو : جنة المعارف لأرواحهم ، وجنة الزخارف لأشباحهم . قال القشيري : جنتان : جنة مُعَجَّلة من حلاوة الطاعة ورَوْح القرب ، ومؤجَّلة في الآخرة ، وهي جنة الثواب ، وهم مختلفون في جنان الدنيا على قدر تفاوت مقادير أحوالهم ، كما يختلفون في الآخرة في درجاتهم . هـ . فجنة حلاوة الطاعة لأهل اليمين ، وجنة روح القرب للمقربين . قال الورتجبي : جنتان : جنة المشاهدة وجنة المكالمة ، جنة المحبة وجنة المكاشفة ، جنة المعرفة وجنة التوحيد ، جنة المقامات وجنة الحالات ، جنة القلب وجنة الروح ، جنة الكرامات وجنة المداناة . هـ . أو : جنة الوصال وجنة الكمال ، أو : جنة الكمال وجنة التكميل ، أو جنة الفناء وجنة البقاء ، أو جنة البقاء وجنة الترقِّي إلى غير انتهاء . وقوله تعالى : { ذواتا أفنان } يُشير إلى ما في هاتين الجنتين من فنون العلوم والأذواق ، والأسرار والأنوار ، وتفنُّن الأفكار في بحار الأسرار ، فيهما لكل واحدٍ عينان تجريان ، إحداهما بعلوم الشريعة والمعاملة وآداب العبودية ، وأخرى بعلوم الحقيقة والطريقة والتوحيد الخاص ، فيهما من كل فاكهةٍ من فواكه الأذواق صنفان : صنف حاصل ، وصنف يتجدّد بتجدُّد الأنفاس ، أو : صنف لعالم الحكمة ، وصنف لعالم القدرة ، أو : صنف للذات وصنف للصفات ، أو : صنف لحلاوة المشاهدة وصنف لآداب المعاملة . متكئين على فُرش الأُنس ، بطائنها من استبرق الروح والفَرح ودوام البِسط ، وجنا الجنتين دانٍ لمَن تمكّن من الشهود لأنّ ثمار المعارف من حلاوة الشهود والأُنس صارت طوع يده ، فشُهوده دائم ، وقُربه للحبيب لازم ، فمهما أجال فكرته غاصت في بحار الأحدية ، واستخرجت من يواقيت الحِكَم ، وجواهر العلوم ، ما لا يُحيط به المفهوم ، بخلاف غير المتمكن ، تعب الفكرة ينقص له من لذة الشهود . قال القشيري : إذ لا لذة في أوائل المشاهدة ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ارزقني لذةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ، في غير ضرّاء مضرة … " الحديث . هـ . فِيهن قاصرات الطرف ، أي : أبكار الحقائق خاصة بهم لا تنكشف لغيرهم . لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان لم يمس تلك الحقائق غيرهم ، لأنها خاصة بأهل الأذواق ، وكل واحد يمس من الحقائق ما لا يمس غيره ، وينكشف له ما لا ينكشف لغيره ، لأنها على حسب الاستعداد . كأنهن - أي : تلك الحقائق - الياقوتُ في صفاء معناها ، والمرجان في حسن مبناها ، هذا جزاء أهل مقام الإحسان . { هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان } أي : هل جزاء أهل مقام الإحسان إلاَّ الإحسان والتقريب والتخصيص بهذه العلوم والحقائق ، أو : هل جزاء الإحسان معنا إلا الإحسان بكشف ذاتنا ، أو : هل جزاء الإحسان إلى عبادي إلاّ الإحسانُ بقربي وولايتي . قال ابن جزي : ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل عليه السلام " أن تعبد الله كأنك تراه " فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين ، ويُقوي ذلك : انه جعل هاتين الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العَلي وجعل جنتين وجعل جنتين دونهما لمَن كان دون ذلك ، فالجنتان المذكورتان أولاً للسابقين ، والمذكورتان بعد ذلك لأصحاب اليمين ، حسبما ورد في الواقعة . انظر تمامه . وإلى جنتي أهل اليمين أشار تعالى بقوله : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } .