Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 1-12)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال ابن عطية : رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَن داوم على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبداً " ، ودعا عثمانُ عبدَ الله بنَ مسعود إلى عطائه ، فأبى أن يأخذ ، فقيل له : خُذ للعيال ، فقال : إنهم يقرؤون سورة الواقعة ، وسمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : " مَن قرأها لم يفتقر أبداً " قال ابن عطية : فيها ذكر القيامة ، وحظوظ الناس في الآخرة ، وفَهْمُ ذلك غِنىً لا فقر معه ، ومَن فهِمه شُغل بالاستعداد . هـ . وقال مسروق : مَن أراد أن يعلم نبأ الأولين ، ونبأ أهل الجنة ، ونبأ أهل النار ، ونبأ الدنيا والآخرة فليقرأ سورة الواقعة . هـ . يقول الحق جلّ جلاله : { إِذا وَقَعت الواقعةُ } إذا قامت القيامة ، وذلك عند النفخة الثانية ، ووُصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة ، فكأنها واقعة في نفسها ، كأنه قيل : أذا وقعت التي لا بُدّ من وقوعها . ووقوع الأمر : نزوله ، يقال : وقع ما كنت أتوقعه ، وانتصاب { إذا } بمضمر يُنبئ عن الهول والفظاعة ، كأنه قيل : إذا وقعت الواقعة يكون من الأهوال ما لا يَفي به المقال ، أو : بالنفي المفهوم من قوله : { ليس لِوقعتها كاذبةٌ } أي : لا كذب وقت وقوعها ، أو : باذكر ، أو : بمضمون السورة قبلها ، أي : يكون ما ذكر من نعِيم الفريقين إذا وقعت الواقعة ، ثم استأنف بقوله : { ليس لوقعتها كاذبةٌ } أي : لا يكون عند وقوعها نَفْسٌ تَكذب على الله ، أو : تكذب في نفسها كما تكذب اليوم ، لأنَّ كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذّبات ، واللام مثلها في قوله : { قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } [ الفجر : 24 ] ، أي : ظرفية ، أي : ليس عند وقوعها كذب ، أو : تعليلية ، قال الفراء : { كاذبة } : مصدر ، كالعاقبة والعالية ، وقيل : صفة لمحذوف ، كما تقدّم . { خافضةٌ رافعةٌ } أي : هي خافضة لأقوام ، رافعة لآخرين ، وهو تقرير لِعظمها وتهويل لأمرها ، فإنَّ الوقائع العِظام شأنها كذلك ، أو : بيان لِما يكون يومئذ من حَطّ الأشقياء إلى الدركات ، ورفع السعداء إلى الدرجات ، ومن زلزلة الأشياء وإزالة الأجرام عن مقارها ، بنثر الكواكب وتسيير الجبال ، كما أبان ذلك بقوله : { إِذا رُجَّتِ الأرضُ رجّاً } : حُرِّكت تحريكاً شديداً حتى تهدِم كلَّ شيء فوقها ، من جبل وبناء ، وهو متعلق بخافضه ، أي : تخفض وترفع وقت رج الأرض ، أي : عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ، ويرتفع ما هو منخفض ، أو : بدل من : { إذا وقعت } ، وجواب الشرط : { فأصحاب الميمنة } ، والمعنى : إذا كان كذا فأصحاب الميمنة ما أسعدهم ، وما أعظم ما يُجازون به ، وما أعظم رتبتهم عند الله في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم . وتقديم الخفض على الرفع للتشديد في التهويل . { وبُسَّتِ الجبالُ بسًّا } أي : فُتنت حتى صارت كالسويق الملتّت ، من : بسَّ السويق : إذا لتّه ، أو : سِيقت وسُيّرت عن أماكنها ، من : بسّ الغنم : إذا ساقها ، كقوله تعالى : { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ } [ النبأ : 20 ] . { فكانت } أي : فصارت بسبب ذلك { هباءً } غباراً { مُنبثاً } منتشراً متفرقاً في الهواء ، والهباء : ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة ، ولا يكاد يُرى إلاّ في الشمس إذا دخلت في كُوة ، { وكنتم } معاشر الخلق ، أو : أيتها الأُمة { أزواجاً } أصنافاً { ثلاثة } صنفان في الجنة ، وصنف النار ، قال قتادة : هي منازل الناس يوم القيامة . ثم فسّر تلك الأزواج ، فقال : { فأصحابُ الميمنة } وهم الذي يؤتون صحائفهم بأيمانهم { ما أصحابُ الميمنة } ، تعظيم لشأنهم ، و " ما " : استفهام تعجب مبتدأ ، و " أصحاب " : خبر ، والجملة : خبر المتبدأ الأول ، والأصل : فأصحاب الميمنة ما هم ؟ أي : أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم ؟ فوضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم ، ومثله : { الْحَآقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ } [ الحاقة : 1 ، 2 ] ونظائرها . { وأصحابُ المشئمةِ } أي : الذين يُؤتون صحائفهم بشمالهم { ما أصحابُ المشئمة } أي : أيّ شيء هم ؟ ! تعجيب من حالهم الفظيع ، أو : فأصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية الخسيسة ، من قولك : فلان مِني باليمين ، وفلان مِني بالشمال إذا وصفتهما عندك بالرفعة والوضعة ، وذلك لتيمُّنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل ، وقيل : يُؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين ، وبأل النار ذات الشمال . وقال القشيري : أصحاب الميمنة : هم الذين في جانب اليمين من آدم وقت ذرَّ الذرية من صُلبه ، وأصحاب المشئمة الذين كانوا في جانب شماله . هـ . قلت : وكذلك رآهم النبي - عليه الصلاة والسلام - ليلة المعراج . { والسابقون السابقون } مبتدأ وخبر ، على معنى تعظيم الأمر وتفخيمه لأنّ المبتدأ إذا أُعيد بنفسه خبراً دلَّ على التفخيم ، كقوله الشاعر : @ أنا أبو النَّجْمِ وشِعْري شِعْري @@ والمعنى : والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالُهم ، وعُرفت محاسنهم ، أو : والسابقون إلى الخيرات هم السابقون إلى الجنات ، وقال أبو السعود : الذي تقتضيه جزالة النظم أنَّ " أصحاب الميمنة " : خبر مبتدأ محذوف ، وكذا قوله تعالى : { والسابقون } فإنَّ المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام ، وأمّا أوصافها وأحوالها فحقها أن تُبين بعد ذلك بإسنادها إليه ، والتقدير : فأحدها أصحاب الميمنة ، والآخر أصحاب المشئمة ، والثالث السابقون . ثم أطال الكلام في ذلك ، فانظره . واختُلف في تعيينهم ، فقيل : هم الذين سبقوا إلى الإيمان ، وإيضاحه ، عند ظهور الحق من غير تلعثم ولا توان ، وقيل : الذين سبقوا في حيازات الفضائل والكمالات ، وقيل : هم الذي صلُّوا إلى القبلتين ، كما قال تعالى : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ } [ التوبة : 100 ] وقيل : السابقون إلى الصلوات الخمس ، وقيل : المسارعون في الخيرات . والتحقيق : أنهم السابقون إلى الله بالمجاهدة والمكابدة ، حتى أفضوا إلى مقام المشاهدة ، وهو مقام الإحسان . { أولئك المقرَّبون } أشار إليهم بإشارة البُعد مع قُرب العهد للإيذان ببُعد منزلتهم في الفضل والشرف ، أي : أولئك السابقون إلى الله هم المقربون إلى الله في الكرامة والتعظيم ، الذي تلي درجاتهم درجات الأنبياء ، وهم { في جنات النعيم } أي : ذات التنعُّم ، فتَصْدق بالفردوس ، التي هي مسكن المقربين ، وإنما أخَّر ذكر السابقين مع كونهم أحق بالتقدُّم في الذكر ليقترن ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم ، ويتخلّص إلى ذكر نعيمهم الآتي ، على أنّ إيرادهم بعنوان المسبق مطلقاً مُعْرِبٌ عن إحرازهم لقصب السبق من جميع الأمور . الإشارة : إذا وقعت الحقيقة المتوقعة للمتوجهين كان من العلوم والأسرار ما لا تُحيط به عامة الأفكار ، ووقوع الحقيقة : برزوها معهم ، وإشراق أنوارها على قلوبهم ، فتفنى الكائنات وتضمحل الرسوم والإشارات ، ويبقى الحيّ القيوم وحده ، كما كان وحده ، ليس لوقعتها كاذبة لا كذب في وقوعها ، ولا شك في إظهارها على مَن توجه إليها ، وصَحِبَ أهلها ، وحطّ رأسه لأربابها ، وامتثل كل ما يأمرونه به ، خافضة لمن توجه إليها ، وَوَصَلَ لأنوارها ، وتحقق بأسرارها . يعني : هكذا شأنها في الجملة ، تخفض قوماً وترفع آخرين ، وإنما تقع لمَن توجه إليها إذا رُجت أرض النفوس منه رجّاً ، أي : تحركت واضطربت ، بمنازلة الأحوال ، وارتكاب الشدائد والأهوال ، وتوالي الأذكار ، والاضطراب في الأسفار ، فإنَّ كُمون سرها في الإنسان كَكمُون الزبد في اللبن ، فلا بد من مخضه لاستخراج زُبده . وبُست جبال العقل منه بسّاً ، فكانت هباءً مُنبثاً لأنّ نور العقل يتغطّى بنور شمس العرفان ، ويضمحل كما يضمحل نور القمر إذا طلعت الشمس ، وكنتم أيها الطالبون المتوجهون أصنافاً ثلاثة : قومٌ توجهوا إليها ، ثم قنعوا بما برز لهم من شعاع أنوارها ، وهم عامة المتوجهين . وقوم استشرفوا عليها فلم يطيقوا أنوارها ، فرجعوا القهقرى ، وهم أهل الحرمان ، من أهل المشأمه . وقوم أدركوها ، وتحققوا بها ذوقاً وكشفاً ، ففنوا وبقوا ، سَكروا وصحوا ، وهم السابقون المقربون في جنات المعارف ، ونعيم الشهود ، أبداً سرمداً ، جعلنا من خواصهم آمين ، وسيأتي إن شاء الله في آخر السورة تحقيق الفرق بين المقربين وأصحاب اليمين . ثم بيَّن تعالى كثرة السابقين وقتلهم باعتبار الزمان ، فقال : { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } .