Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 13-26)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { ثُلّةٌ } أي : هم ثلة ، أي : جماعة كثيرة { من الأولين } والثُلة : الأمة الكثيرة من الناس ، { وقليل من الآخِرين } ممن يتأخر من هذه الأمة ، والمعنى : أن السابقين في أول الأمة المحمدية كثير ، وفي آخرها قليل ، وذلك أنَّ صدر هذه الأمة كَثُر فيها خير ، وظهرت فيها أنوار وأسرار ، وخرج منها جهابذة من العلماء والأولياء ، بخلاف آخرها ، السابقون فيها قليلون بالنسبة إلى عامة أهل اليمين ، ويُؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " ، وصرّح في حديث آخر أنهم جميعاً من أمته ، فقال : " الفرقتان من أمتي " ، فسابق أول الأمة ثلة ، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل . هـ . من الثعالبي . وقيل : المراد بالأولين : الأمم الماضية ، والآخرين : الأمة المحمدية ، وهو بعيد أو فاسدٌ ، واقتصر في نوادر الأصول على أنَّ الثلة الأنبياء ، وخُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ومِنْ بعده الأولياء ، وعددهم قليل في كل زمان . هـ . وفي المَحلِّي هنا تخليط . انظر الحاشية . { على سُرُرٍ } جمع سرير ، { موضونةٍ } قال ابن عباس : " مرمولة " ، أي : منسوجة بقضبان الذهب ، وقضبان اللؤلؤ الرطب ، طولُ السرير : ثلاثمائة ذراع ، فإذا أراد الجلوس تواضع ، فإذا استوى عليه ارتفع ، { متكئين عليها } حال من الضمير في الظرف ، وهو العامل فيه ، أي : استقروا على سُرر متكئين عليها اتكاء الملوك على الأَسِرة ، { متقابلين } ينظر بعضهم في وجوه بعض ، ولا ينظر بعضهم من أقفاء بعض . وُصفوا بحسن العِشْرة ، وتهذيب الأخلاق ، وصفاء المودة . وهو أيضاً حال . { يطوف عليهم } يَخدمهم { وِلدانٌ } غلمان ، جمع وليدٍ ، { مُخلَّدون } مُبْقَّوْنَ أبداً على شكل الولدان ، لا يتحولون عنه إلى الكِبَر ، وقيل : مقرَّطون ، والخِلَدَةُ : القُرْط ، وهو ما يلقى في الأذن من الأخراص وغيرها . قيل : هم أطفال أهل الدنيا ، لم يكن لهم حسنات يُثابون عليها ، ولا سيئات يعاقبون عليها . وفي الحديث : " أولاد الكفار خُدّام أهل الجنة " وهذا هو الصحيح . { بأكوابٍ } جمع كوب ، وهو آنية لا عروة لها ولا خرطوم ، { وأباريقَ } جمع إبريق ، وهو ما له خرطوم وعروة ، { وكأسٍ } أي : قدح فيه شراب ، فإن لم يكن فيه شراب فلا يُسمى كأساً ، { من مَعينٍ } من خمر ، يجري من العيون ، { لا يُصَدَّعون عنها } أي : بسببها ، أي : لا يصدر عنها صُداع ، وهو وجع الرأس ، { ولا يُنزَفُونَ } ولا يسكرون ، يقال : نزَف الرجل : ذهب عقله بالسُكر ، فهو نزيف ومنزوف . وقرأ أهل الكوفة بضم الياء وكسر الزاي ، أي : لا ينفذ شرابهم ، يقال : أُنزف القوم : إذا نفد شرابهم . وفي الحديث : " زَمزمُ لا تُنْزَفُ ولا تُذَمّ " أي : لا ينفذ ماؤها . { وفاكهةٍ مما يتَخيَّرون } أي : يختارونه ويأخذون خيره وأفضله ، يجنونه بأيديهم ، وهو أشد نعيماً وسروراً من أخذه مجنياً ، { ولحم طيرٍ مما يشتهون } مما يتمنون مشوياً أو مطبوخاً ، { وحُورٌ عِينٌ } أي : وفيها حور عين ، أو : لهم حور عين ، ويجوز أن يعطف على " ولدان " أي : وتخدمهم حُور عين ، زيادة في التعظيم ، ومَن قرأ بالخفض عطفه على " جنات النعيم " كأنه قيل : هم في جنات النعيم وفاكهة ولحم طير وحور { كأمثالِ اللؤلؤ المكنونِ } في الصفاء والنقاء . والمكنون : المصون في صَدفه . وقال الزجاج : كأمثال الدُرِّ حين يخرج من صدفه ، لم يُغيرّه الزمان واختلاف الأيدي عليه ، { جزاء بما كانوا يعملون } مفعول له ، أي : يفعل بهم ذلك لجزاء أعمالهم الصالحة أو : مصدر ، أي : يُجزَون جزاء ، فنفس الدخول للجنة بمحض الرحمة ، وكثرة النعيم والغُرف بالعمل ، والترقي باليقين والمعرفة - والله تعالى أعلم - فلا تعارض . { لا يَسْمَعون فيها } في الجنة { لَغواً } باطلاً { ولا تأثيماً } هذياناً ، أو : ما يُؤهم صاحبه لو كف ، { إِلاَّ قِيلا } أي : قولاً { سلاماً سلاماً } أي : ذا سلامة . والاستثناء منقطع ، و " سلاماً " بدل من " قيلاً " أو : مفعول به لـ " قيلاً " ، أي : لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاماً سلاماً ، والمعنى : أنهم يُفشون السلام فيُسَلِّمون سلاماً بعد سلام ، أو : لا يسمع كلٌّ من المسلِّم والمسلِّم عليه إلا سلام الآخر بدءاً ورداً . والله تعالى أعلم . الإشارة : أخبر تعالى أنّ المقربين في الصدر الأول أكثر من الزمان الأخير ، وهو كذلك من جهة الكمية ، وأما من جهة الكيفية فالمقربون في آخر الزمان أعظم رتبةً ، وأوسع علماً وتحقيقاً لأنهم نهضوا في زمان الغفلة ، وجدُّوا في زمان الفترة ، لم يجدوا من أهل الجدّ إلا قليلاً ، ولا من أهل الحق إلا نذراً يسيراً ، فحيث نهضوا وحدهم عوّضهم الله مرتبة لم يعطها لغيرهم ، ويشهد لهذا قوله عليه السلام : " اشتقت إلى إخواني " قال أصحابه ، نحن إخوانك يا رسول الله ؟ قال : " أنتم أصحابي ، إخواني قوم يأتون بعدي ، مِن نعتهم كذا وكذا " ثم قال : " يعدل عمل واحد منهم سبعين منكم " قالوا : يا رسول الله منهم ؟ قال : " منكم " قيل : بماذا يا رسول الله ؟ قال : " إنكم وجدتم على الخير أعواناً ، وهم لم يجدوا عليه أعواناً " وفي حديث آخر ، رواته ثقات : " قالوا : يا رسول الله هل أحد خير منا ؟ قال : " قوم يجيئون بعدكم ، فيجدون كتاباً بين لوحين ، يؤمنون بما فيه ، ويؤمنون بي ، ولم يروني ، ويُصَدِّقون بما جئتُ به ، ويعملون به ، فهم خير منكم " ، ولا يلزم من تفضيلهم مِن جهةٍ تفضيلهم مطلقاً . ثم وصف المقرّبين بكونهم على سُرر الهداية ، منسوجة بالعِز والعناية ، محفوفة بالنصر والرعاية ، متكئين عليها ، راسخين فيها ، متقابلين في المقامات والأخلاق ، أي : يواجه بعضهم بعضاً بقلوبهم وأسرارهم ، لا تَباغض بينهم ولا تحاسد ، تطوف عليهم الأكوان وتخدمهم ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المُكوّن ، فإذا شهدت المُكوِّن كانت الأكوان معك " : يُسقون بأكوابٍ وأباريق من علم الطريق ، وكأس من خمر الحقيقة ، فلا يتصدّعون من أجلها إذ ليست كخمر الدوالي ، ولا يُنزفون : لا يسكرون سُكْر اصطلام ، وإنما يسكرون سُكراً مشوباً بصَحْوٍ ، إذا كان الساقي عارفاً ماهراً . وفاكهة حلاوة الشهود ، مما يتخيرون ، إن شاؤوا بالفكرة والنظرة ، وإن شاؤوا بالذِكر والمذاكرة ، وكان بعض أشياخنا يقول : خمرة الناس في الحضرة ، وخمرتنا في الهدرة ، أي : المذاكرة . ولحم طير من علوم الطريقة والشريعة ، مما يشتهون منها ، وحُورق عِين من أبكار الحقائق ، مصونة عن غير أهلها ، كأمثال اللؤلؤ المكنون ، جزاء على مجاهدتهم ومكابدتهم . لا يسمعون في جنة المعارف لغواً ولا تأثيماً لتهذيب أخلاق أهلها ، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه : @ تُهذّبُ أخلاقَ النّدامى ، فيَهْتدي بها لطريقه العزم مَن لا له عَزْم ويكرُمُ مَن لا يَعْرف الجودَ كَفّثه ويحلُمُ عند الغيظ مَن لا له حِلم @@ فلا تسمع من الصوفية إِلا قيلاً سلاماً سلاماً ، كما قيل في حقيقة التصوُّف : أخلاقٌ كرام ، ظهرت من قوم كرام ، في زمن كريم . هـ . ثم ذكر أصحاب اليمين ، فقال : { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } .