Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 83-96)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله لمَّا وبَّخهم على تكذيبهم بالقرآن الناطق بقوله : { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ } [ الواقعة : 75 ] ، ثم أوقفهم على أنهم تحت قهر ملكوته ، من حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معاشهم ، عجزهم بقهرية الموت ، فقال : { فلولا } أي : هلاَّ { إِذا بلغتْ } الروح عند الموت { الحلقومَ } وهو ممرّ الطعام والشراب ، وتداعت للخروج { وأنتم حينئذٍ } أيها الحاضرون حول صاحبها { تنظرون } إلى ما هو فيه من الغمرات ، { ونحن أقربُ إِليه } علماً وقدرة وإحاطة { منكم } حيث لا تعرفون من حاله إلاَّ ما تُشاهدون من أثر الشدة ، من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها ، ولا أن تقدروا على دفع أدنى شيء منها ، ونحن المتولون لتفاصيل أحواله ، { ولكن لا تُبصرون } لا تدركون ذلك لجهلكم بشؤوننا ، { فلولا إِن كنتم غير مَدِينينَ } غير مربوبين مقهورين ، من : دان السطلان رعيته : إذا ساسهم واستعبدهم ، والمحضَض عليه قوله : { ترجعونها } تردون الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم { إِن كنتم صادقين } أنكم غير مربوبين مقهورين . وترتيب الآية : فلولا إذا بلغت الروحُ الحلقومَ ، وأنتم تنظرون إليه ، يُعالج سكرات الموت ، ترجعونها إلى الجسد إن كنتم غير مربوبين ، فـ " لولا " الثانية مكررة للأولى للتأكيد ، والمعنى : إنكم في عموم جحودكم إن أنزلت عليكم كتاباً قلتم : سحرٌ وافتراءٌ ، وإن أرسلتُ إليكم رسولاً صادقاً قلتم : ساحرٌ كذابٌ ، وإن رزقتكم مطراً يُحييكم قلتم : صدق نوء كذا ، على مذهب التعطيل ، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغ الحلقوم ، إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمُحيي المييت ، المبدئ المعيد ، وأنكم غير مربوبين مقهورين ؟ ! . ثم ذكر أحوال الأرواح عبد الموت في البرزخ ، فقال : { فأمّا إِن كان } المتوفى { من المقرَّبين } من السابقين ، من الأزواج الثلاثة المذكورة أول السورة ، عبّر عنهم هنا بأجلّ أوصافهم ، وهو شدة القرب ، بعد أن عبّر عنهم أولاً بالسبق ، فالسابقون هم المقربون ، وهم العارفون بالله معرفة العيان ، أهل الفناء في الذات ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " سبق المُفَرِّدون ، قيل : ومَن المُفَرِّدون يا رسول الله ؟ قال : المسْتَهترون بذكر الله " الحديث . فالسابقون هم المولعون بذكر الله ، حتى امتزج مع لحمهم ودمهم ، فحصل لهم القرب من الحق . { فَرَوْحٌ } أي : فلهم روح ، أي : راحة للروح لأرواحهم من هموم الدنيا وغمومها ، ومن ضيق عالم الأشباح إلى خالص عالم الأرواح ، مع أن هذا حاصل لهم قبل الموت ، لكن يتسع ميدانه بعد الموت ، أو : رحمة تخصهم ، أو : نسيم يهب عليهم . وفي القاموس : الرَّوح - بالفتح : الراحة والرحمة ونعيم الريح . هـ . وقرئ بالضم ، وهي مروية عنه صلى الله عليه وسلم ، أي : الحياة والبقاء ، أو : فله حياة طيبة دائمة لا موت فيها { وريحانٌ } أي : رزق ، بلغة حِمْير ، والمراد : رزق أرواحهم من العلوم والأسرار ، أو : أشباحهم ، فإنّ أرواحهم تتطور على شكر صاحبها ، فتأكل من ثمار الجنة ، وتشرب من أنهارها . كما في حديث الشهداء ، والصديقون أعظم منهم ، أو : جنة ، أو : هو الريحان الذي يُشمّ . قال أبو العالية : " لا يُفارق أحدٌ من المقربين الدنيا حتى يؤتى ببعض من ريحان الجنة فيشمه ، فتفيض روحه " ، { وجنةُ نعيم } تتنعّم فيها روحه في عالم البرزخ ، ثم جسمه وروحه بعد البعث ، وهذا يقتضي أنّ الأرواح تدخل الجنة قبل البعث ، وهو خاص بالشهداء والصدِّيقين . { وأمّا إِن كان مِن أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين } أي : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي : يسلّمون عليك فإنّ الروح إذا سُئلت في القبر عُرج بها إلى أرواح أهلها ، فيتلقونه ويُسلّمون عليه ، ويهنُّونه بالخروج من سجن الدنيا ، أو : سلامة لك يا محمد من أصحاب اليمين ، فلا ترى فيهم إلاَّ السلامة . { وأمّا إِن كان من المكذّبين الضالين } هم الصنف الثالث من الأزواج الثلالثة ، وهم الذين قبل لهم : { ثم إنكم إيها الضالون المكذِّبون } … الخ ، { فَنُزُلٌ من حَميم } أي : فله نُزل من حميم يشربه ، { وتَصْلِيهُ جحيمِ } إدخال في النار ، ومقاساة ألوانِ عذابها . وهذا يدل على أنّ الكافر بمجرد موته يدخل النار . وقيل : معنى ذلك : ما يجده في القبر من سموم النار ودخانها . ويحتمل : أن الآية لا تختص بعالم البرزخ ، بل تعم البرزخ وما بعده . وقد تكلم الناسُ عن الأرواح في عالم البرزخ ، وحاصل ما ظهر لنا من الأحاديث والأخبار : أنّ أرواح الصدّيقين ، وهم المقربون ، تتشكل على صورة أجسامهم ، وتذهب حيث شاءت في الجنان وغيرها . وأرواح الشهداء تدخل في حواصل طيور خُضر ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، لمّا كانت أرواحهم في الدنيا مسجونة في هيكل ذاتهم ، سُجنت في حواصل الطيور ، بخلاف العارفين لّمَا سرحت أفكارهم في الملكوت والجبروت أُطلقت أرواحهم بعد الموت ، وأرواح الصالحين الأبرار وعامة المؤمنين ، ممن لم ينفذ فيه الوعيد متفرقة في البرزخ ، فمنهم في ظل شجرة المنتهَى ، ومنهم في السموات ، على قدر سعيهم في الدنيا . وكل صنف يُجمع مع صنفه جماعةً ، فالعلماء مع صنفهم ، والقراء كذلك ، والصالحون كذلك ، والأولياء كذلك ، والمنهمكون في الدنيا إذا سلموا من العذاب تكون أرواحهم كالنائم المستغرق ، لا يشعر بمرور الأيام ، حتى يستيقظ بنفخة البعث ، وأما مَن نفذ فيهم الوعيد ، فهم يُعذبون بأنواع من العذاب ، وتذكَّر حديث البخاري في الرؤيا التي رآها صلى الله عليه وسلم في شأن الزناة وأكل الربا ، وغيرهم . وفي ابن حجر : أن أرواح المؤمنين في عليين ، وأرواح الكافر في سجين ، ولكل روح بجسدها اتصال معنوي ، لا يُشبه الاتصال في الحيلة الدنيا ، بل أشبه شيء به حال النائم ، وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالاً قال : وبهذا يُجمع بين ما ورد أن مقرها في عليين أو سجين ، وبين ما نقل ابن عبد البر عن الجمهور : أنها عند أَفْنية قبورها . قال : ومع ذلك فهي مأذون لها في التصرُّف ، وتأوي إلى محلها من عليين أو سجين ، وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر ، فالاتصال المذكور متصل ، وكذا إذا تفرقت الأجزاء . هـ . وفي الأصل الرابع والخمسين من نوادر الأصول : إذا قَدِمَ المؤمنُ على ربه لقاه رَوحاً وريحاناً وبشرى على ألسنة الرسل ، وهو قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [ فصلت : 30 ] ، ثم يأمر له في قبره بكسوة من فِراش ودِثار ورياحين ، وهو قوله : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } الروم : 44 ] ، ويُنور له في مضجعه ، ويُؤنسه بملائكته الكرام ، إلى أن يلقاه عرصة القيامة ، فيبعثه إلى الموطن الذي هيأ له نزلاً . هـ . وقال في الأصل السبعين : إنّ الشهداء يُعجّل لهم تعالى اللقاء ، ويحييهم قبل نفخة الصور ، ويكلمهم كِفاحاً ، كما لأهل الجنة ، وليس لمَن دونهم من الأموات هذه الدرجة إلاّ للصدّيقين ، فهم أجدر بذلك لبذلهم نفوسهم لله تعالى مدة أعمارهم ، والشهداء بذلوها في طاعة الله ساعة ، فظهر أن للشهيد حياة خاصة على مَن دونه ، وأحرى منه الصدّيق . هـ . وبالجملة : فالأرواح منها في البرزخ تجول وتُبصر أحوال أهل الدنيا ، ومنها تحت العرش ، ومنها طيّارة في الجنان وإلى حيث شاءت ، على أقدارهم من السعي إلى الله أيام الحياة ، ومنها ما تسرح وتتردد إلى جثتها تزورها ، ومنها ما يلقى أرواح المقبوضين . وعن سَلمان : إنّ الأرواح المؤمنين - أي : الكُمل - تذهب في برازخ من الأرض حيث شاءت ، بين السماء والأرض ، حتى يردها الله إلى جسدها ، فإذا ترددت هذه الأرواح علمت بأحوال الأحياء ، وإذا ورد عليهم من الأحياء ميت ، التفُّوا وتساءلوا عن الأخبار . هـ . قلت : وهذه أرواح العارفين دون غيرهم . والله تعالى أعلم . وفي بعض الأثر : إذا مات العارف قبل لروحه : جُل حيث شئتِ . { إِنَّ هذا } أي : الذي ذكر في السورة الكريمة { لهو حقُّ اليقين } أي : الحق الثابت من اليقين ، أو : حق الخبر اليقين ، { فسبِّح باسم ربك العظيم } الفاء لترتيب التسبيح ، أو الأمر به على ما قبلها ، فإنّ حقيّة ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل من الأمور التي من جملتها الإشراك والتكذيب بآياته الناطقة بالحق . الإشارة : فأمّا إن كان من المقربين فرَوْح الوصال ، وريحان الجمال ، ومِنّة الكمال ، أو : فرَوْح الفضاء ، وريحان العطاء ، وجنة البقاء ، أو : فروح الفناء ، وريحان البقاء ، وجنة الترقي أبداً سرمداً ، أو : فرَوْح الأنس لقلبه ، وريحان القدس لروحه ، وجنة الفردوس لنفسه ، { وأمّا إِن كان مِن أصحاب اليمين فسلامٌ لك } أي : فسلام عليك يا محمد { من أًصحاب اليمين } فهم يسلمون عليك ، ويشتاقون إلى لقائك ، ويرتاحون للقدوم عليك وصحبتك . والحاصل : أنَّ المقرَّب راحته ونعيمه في وصاله بربه ، وصاحب اليمين اشتياقه لرسوله ، وراحته ونعيمه في حصبته وجواره ، فالمُقرَّب فانٍ في ذات الحق ، وصاحب اليمين فانٍ في رسوله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق ، فأهل الفناء في الذات هم المقربون ، وأهل الفناء في النبي صلى الله عليه وسلم هم أصحاب اليمين ، فحاصل الآية : { فأمّا إِن كان مِن المقربين } فهو لي ، وأُجازيه برَوْح وريحان وجنة نعيم ، وأما إن كان من أصحاب اليمين فمُسلم لك ، وهو من أصحاب اليمين ، هذا حاصل ما حرره شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته . وفي الإحياء ما حاصله : أنَّ المقرَّب له الوصال إلى سعادة الملك ، وصاحب اليمين له النجاة ، وهو سالك ، والمقرَّب واصل ، والمعرِض عن الله له الجحيم . والخبر عن ذلك كله حق يقين عند العارف بالله لأنه أدرك ذلك كله مشاهدةً . وفي القوت بعد كلام : وأيضاً للمقربين من كل هولٍ رَوح به لشهادتهم القريب ، وفي كل كربٍ ريحان لقرب الحبيب ، كما لأهل اليمين من كل ذلك سلامة . هـ . قال النسفي : رُوي أنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه في مرض موته ، فقال : ما تشتكي ؟ فقال : ذنوبي ، فقال : ما تشتهي ؟ فقال : رحمة ربي - وفي رواية : ما يقضي ربي - فقال : أفلا تدعوا الطبيب ؟ فقال : الطبيب أمرضني ، فقال : ألا نأمر لك بعطاء ؟ فقال : لا حاجة لي فيه ، قال : ندفعه إلى بناتك ، قال : لا حاجة لهن فيه ، قد أمرتهنّ بأن يقرأن سورة الواقعة ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَن قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تُصبه فاقة أبداً " وليس في هذه السور الثلاث ذكر لفظ " الله " اقتربت ، والرحمن ، والواقعة . هـ . وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلّم .