Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 75-82)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : " فلا " : صلة ، كقوله : { فَلاَ وَرَبِّكَ … } [ النساء : 65 ] . ومَن قرأ باللام فهي لام الابتداء ، دخلت على مبتدأ محذوف ، أي : فلأنا أُقسم ، ولا يصح أن تكون للقسم لأنها لا بد أن تقرن بنون التوكيد . يقول الحق جلّ جلاله : { فلا أُقِسِمُ بمواقعِ النجومِ } بمساقطها ومغاربها . وقرأ الأخَوان " بموقع " على الإفراد ، وتخصيصها بالقَسَم لِمَا في غروبها من زوال أثرها ، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير ، أو : لأنّ ذلك وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه تعالى ، وأوان نزول الرحمة والرضوان عليها ، واستعظم ذلك بقوله : { وإنه لقَسَم لو تعلمون عظيمٌ } وهو اعتراض في اعتراض ، لأنه اعتراض بين القسم والمقسَم عليه بقوله : { إِنه لقرآن كريمٌ } أي : حسن مرضيّ ، أو نفّاع جمّ المنافع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد ، أو : كريم على الله تعالى ، واعترض بين الموصوف وصفته بـ { لو تعلمون } وجواب " لو " متروك ، أريد به نفي علمهم ، أو : محذوف ، ثقةً ، والتقدير : وإنه لقسم لو تعلمون ذلك ، لكن لا تعلمون كُنه ذلك ، أو : لو تعلمون ذلك لعظمتموه ، أو : لعملتم بموجبه ، { في كتابٍ مكنون } مَصون من غير المقربين من الملائكة ، لا يطلع عليه مَن سواهم ، وهو اللوح المحفوظ . { لا يَمسُّه إِلاَّ المُطَهَّرون } أي : الملائكة المنزّهون عن الكدرات الجسمانية ، وأوضار الذنوب . هذا إن جعلته صفة لكتاب مكنون ، وهو اللوح ، وإن جعلته صفة للقرآن فالمعنى : لا ينبغي أن يمسّه إلاَّ مَن هو على الطهارة مِن الناس ، والمراد : المكتوب منه . قال ابن جزي : فإن قلنا إنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الملائكة ، فالمطهَّرون يُراد به الملائكة لأنهم مُطهَّرون من الذنوب والعيوب ، وإن قلنا أنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الناس فيحتمل أن يريد بالمطهرين : المسلمين لأنهم مُطَهرون من الكفر ، أو يريد : المطهرين من الحدث الأكبر ، وهو الجنابة والحيض ، فالطهارة على هذا : الاغتسال . أو : المطهرين من الحدث الأصغر ، فالطهارة على هذا : الوضوء ، ويحتمل أن يكون قوله : { لا يمسُّه } خبراً أو نهياً ، على أنه قد أنكر بعضهم أن يكون نهياً ، وقال : لو كان نهياً لكان بفتح السين . والتحقيق : أن النهي يصح مع ضم السين لأن الفعل المضاعف إذا كان مجزوماً واتصل به ضمير المفرد المذكر ضُم عند التقاء الساكنين ، اتباعاً لحركة الضمير ، وإذا جعلته خبر فيحتمل أن يُراد به مجرد الإخبار ، أو : يكون خبراً بمعنى النهي ، وإذا كان لمجرد الإخبار ، فالمعنى : لا ينبغي أن يمسه إلاَّ المطهرون ، أي : هذا حقه ، وإن وقع خلاف ذلك . واختلف الفقهاء فيمن يجوز له مَسّ المصحف على حسب الاحتمالات في الآية ، فأجمعوا على أنه لا يمسه كافر ، واختلفوا فيما سواه على أقوال فقال بعضهم : لا يجوز أن يمسه الجُنب ولا الحائض ولا المحدِث الحدثَ الأصغر ، وهذا قول مالك وأصحابه ، ومَنعوا أيضاً أن يحمله بعلاقة أو وسادة ، وحجتهم : الآية ، على أن يُراد بالمطهرين الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر ، وقد احتج مالك في الموطأ بالآية ، ومن حجتهم أيضاً : كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَمرو بن حزم ألاَّ يمسَّ القرآن إلا طاهرٌ . القول الثاني : أنه يجوز مسه للجنب والحائض والمحدِث حدثاً أصغر ، وهو مذهب أحمد بن حنبل والظاهرية ، وحملوا " المطهرين " على أنهم المسلمون أو الملائكة . والقول الثالث : أنه يجوز مسه بالحدث الأصغر دون الأكبر ، وحمل صاحب هذا القول " المطهرين " على أن يُراد من الحدث : الأكبر ، ورخَّص مالك في مسِّه على غير وضوء لمُعلِّم الصبيان لأجل المشقة . واختلفوا في قراءة الجنب للقرآن ، فمنعه الشافعي وأبو حنيفة مطلقاً ، وأجازه الظاهرية مطلقاً ، وأجاز مالك قراءة الآيات اليسيرة ، أي : لتعوُّذ ونحوه . واختلفوا في قراءة الحائض والنفساء للقرآن عن ظاهر قلب ، فعن مالك روايتان ، وفرّق بعضهم بين الكثير واليسير . هـ . قلت : المشهور في الحائض والنفساء جواز القراءة مطلقاً . وقال الكواشي عن ابن عطاء : لا يفهم إشارات القراءة إلاَّ مَن طَهَّر سره من الأكوان . هـ . وفي آخر البخاري " لا يمسه " : لا يجد طعمه ونَفْعَه إلاَّ مَن آمن بالقرآن ، ولا يحمله بحقه إلاَّ المؤمنُ لقوله : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ } [ الجمعة : 5 ] . هـ . { تنزيلٌ من رب العالمين } : صفة رابعة للقرآن ، أي : نزل من رب العالمين ، وُصف بالمصدر لأنه نزل منجّماً من بين سائر الكتب ، فكأنه في نفسه تنزيل ، { أفبهذا الحديثِ } أي : القرآن { أنتم مُّدْهِنون } متهاونون به ، كمَن يُدهن في بعض الأمر ، أي : يلين جانبه ، فلا يتصلّب فيه تهاوناً به . قال ابن عطية : قال ابن عباس : المداهنة هي المهاودة فيما لا يحل ، والمداراة : المهادوة فيما يحل . هـ . { وتجعلون رزقَكم أنكم تُكذِّبون } أي : وتجعلون شكر رزقكم التكذيب ، أي : وضعتم التكذيب موضع الشكر . وفي قراءة عليّ رضي الله عنه ، وهي مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وتجعلون شكركم أنكم تكذِّبون " أي : وتجعلون شكركم لنعمة القرآن التكذيب . وقيل : نزلت في الأنواء ونسبة الأمطار إليها ، أي : وتجعلون شكر ما رزقكم الله من الغيث أنكم تكذّبون كونَه من الله ، حيث تنسبونه إلى النجوم ، وتقولون : مُطرنا بنوء كذا ، والمنهي إنما هو اعتقاد التأثير للنجوم ، لا من بابا العلامة وقيل : مطلقاً ، سدّاً للذريعة ، وهو مقتضى كلام ابن رشد ، وعزاه لسحنون . والمسألة خلافية ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إذا ذُكرت النجوم فأمْسِكوا " ، ومنهم مَن فصّل في المسألة ، فقال : يجوز إضافة الأفعال السيئة إليها لقوله صلى الله عليه وسلم : " تعوّذوا بالله من شر هذا ، فإنه الغاسق إذا وقب " وأشار إلى القمر . وأما الحسنة فالشكر يقتضي إضافتها إلى الله ، وكذا الأدب . والله تعالى أعلم . الإشارة : مواقع النجوم هي أسرار العارفين لأنه يغرق في بحارها كل ما سوى الله ، وتغيب فيها نجوم العلم العقلي والنقلي ، وأقمار التوحيد البرهاني لأنه إذا أشرقت في قلوبهم شمس العرفان ، لم يبقَ لنور النجوم والقمر أثر ، وقد قلت في قصيدتي العينية : @ تبدّت لنا شمسُ النهارِ وأشرقتْ فلم يَبق ضوءُ النجمِ والشمسُ طالعُ @@ قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي : كنتُ أعرف أربعة عشر علماً ، فلما تعلمتُ علم الحقيقة شرطت ذلك كله . هـ . يعني : وقع الاستغناء عنها ، فالكنز الذي ظفر به من العلم بالله ، على نعت العيان ، فلم يبقَ للروح التفات إلى شيء قط . " ماذا فقد من وجدك " ؟ وليس المراد أنها ذهبت معرفتها عنه ، بل لو رجع إليها لوجدها تشحرت واتسعت أمدادها ، ولكن ظفر بعلم يُعد الاشتغال بغيره بطالة ، كما قال الغزالي لابن العربي المعافري : كنتَ الصاحِبَ في زمن البطالة ، يعني : قبل ملاقاته بالشيخ . وإنما كان القسم به عظيماً لأنه ليس عند الله أعظم من قلوب الواصلين وأسرار العارفين ، لأنها وسعت الرب تعالى علماً وتجلياً ، " لم يسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن " . فالقَسم عظيم ، والمُقسَم به أعظم ، والمُقسَم عليه أعظم ، وهو القرآن الكريم ، { لا يسمّه إلاّ المطهرون } قال الجنيد : لا يمسّه إلاّ العارفون بالله ، المطهرون سرهم عما سوى الله . هـ . أي : لا يمس أبكار حقائقه ودقائق إشارته إلاّ القلوب المطهَرة من الأكدار والأغيار ، وهي قلوب العارفين : { تنزيل من رب العالمين } على سيد المرسلين ، ثم غرفت أسرارَه قلوبُ خلفائه العارفين . أفبهذا الحديث أنتم مدهنون . قال القشيري : أي : أنتم تتهاونون في قبول مثل هذا الكلام الحق ، وتعجبون من مثل هذه الحقيقيات والتدقيقات . هـ . والعتاب لمَن يتهاون بعلم الإشارة ويُنكرها . ويتنكّب مطالعتها . وتجعلون شكر رزقكم إياها - حيث استخرجها بواسطة قلوب العارفين - التكذيب بها والإنكار على أربابها . ثم أظهر عجزهم عند نزول قهرية الموت ، فقال : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } .