Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 58, Ayat: 22-22)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { تجد } إما متعدٍّ إلى اثنين ، و " يوادون " الثاني ، أو إلى واحد ، بمعنى : تصادف . و " يوادون " : حال من " قوم " ، لتخصيصه بالصفة ، أو صفة ثانية . يقول الحق جلّ جلاله : { لا تجدُ } أيها الرسول ، أو : كل مَن يسمع { قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ } أي : خالفه { ورسولَه } أي : عاده ، أي : لا تجد قوماً مؤمنين يُوالون المشركين ، أي : لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال ، مبالغة في الزجر عن موالاة أعداء الله ، والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتهم ، وزاد ذلك الأمر تأكيداً وتشديداً بقوله : { ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إِخوانَهم أو عشيرتَهم } أي : لو كان مَن حادّ الله ورسلَه مِن أقرب الناس إليه ، فإنَّ قضية الإيمان بالله تعالى أن يهجر كُلَّ مَن حادَ عنه بالمرة ، وهذه حال أهل الصدق في الإيمان ، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يُقاتلون آباءهم وأبناءهم وإخوانهم ، فقد قَتَلَ أبو عبيدة بنُ الجراح أباه ، وأتى برأسه للنبي صلى الله عليه وسلم ، طاعةً لله ورسوله ، وقال سعدُ بن أبي وقاص : " كنتُ جاهداً على قتل أخي عُتبة ، يوم بدر " . وفيهم نزلت الآية . والجمع باعتبار معنى " مَن " كما أنّ الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها . { أولئك } الموصوفون بما ذكر ، وما فيه من معنى البُعد لرفع درجتهم في الفضل ، وهو مبتدأ خبره : { كَتَبَ في قلوبهم الإِيمان } أي : أثبته فيها ، وفيه دلالة على خروج الأعمال مِن مفهوم الإيمان ، فإنَّ جزء الثابت في القلب ثابت ، فيه ، ولا شيء من أعمال الجوارح يثبتُ فيه . { وأيَّدهم } أي : قوَّاهم { برُوحٍ منه } أي : من عنده تعالى ، وهو نور اليقين ، أو : القرآن ، أو : النصر على العدو ، ويجوز أن يكون الضمير للإيمان ، أي : بروح من الإيمان ، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به . وعن الثوريِّ : أنهم كانوا يَرَوْنَ أنها نزلت فيمن يصحب السلطان ، أي : ويُداهنه ولا ينصحه . وقال سهل : مَن صحّح إيمانه ، وأخلص توحيده ، لا يأنس بمبتدِع ، ولا يُجالسه ، ويظهر له من نفسه العداوة ، ومَن داهن مبتدِعاً سلبه الله حلاوةَ السنن ، ومَن أجابه لطلب عزِّ الدنيا ، أو عَرضها ، أذلَه الله بذلك العزّ ، وأفقره بذلك الغنى ، ومَن ضحك إلى مبتدع نزع الله نورَ الإيمان من قلبه ، ومَن لم يصدّق فليجرب . هـ من النسفي . ثم بيّن ما يتحفهم به في الآخرة ، بعد بيان ما أكرمهم به في الدنيا ، بقوله : { ويُدخلهم جناتٍ تجري مِن تحتها الإنهارُ خالدينَ فيها } أبد الآبدين ، { رضي اللهُ عنهم } لتوحيدهم الخالص وطاعتهم ، { ورَضُوا عنه } لثوابه الجسيم في الآخرة ، وبما قضى بهم في الدنيا ، وهو بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلاً وآجلاً . { أولئك حزبُ الله } أنصار حقّه ، ورعاة خلقه ، وهو بيان لاختصاصهم به - عزّ وجل - وفي مقابلة اختصاص حزب الشيطان به . وقوله تعالى : { ألا إِنَّ حزبَ الله هم المفلحون } بيان لاختصاصهم بالفوز بسعادة النشأتين ، أي : هم الباقون في النعيم المقيم ، الفائزون بكل محبوب ، الآمنون من كل مرهوب . الإشارة : لا تجد قوماً يريدون تحقيق الإيمان وخلوص العرفان يُوادون أهلَ الغفلة والعصيان ، ولو كانوا من أقرب الناس إليهم ، فالأخ الحقيقي والصاحب الخالص هو الذي يوافقك في النسبة ، ويرافقك على الطاعة ، ويُغيِّبك عن مواطن الغفلة ، وأمَّا مَن يجرك إلى الغفلة فلا نسبة بينك وبينه ، ولو كان أباً أو أمّاً أو أخاً شقيقاً . وقد تقدّم الكلام على المسألة في قوله تعالى : { الأَخِلآَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] . قال القشيري : مَن جَنَحَ إلى منحرفٍ في دينه ، أو داهَنَ مبتدعاً في عقده ، نَزَعَ اللهُ نورَ التوحيد من قلبه ، فهو في حياته جانٍ على عقيدته ، سيذوق قريباً وَبَال أمره ، وإنَّ الأولياء كتب الله الإيمانَ في قلوبهم وأثبته . ويقال : جعل قلوبهم مُطرّزةً باسمه ، وأعْزِزْ بحُلة أسرار قومٍ ، طِرازُهم اسم " الله " عزّ وجل ! ! . هـ . وقال الورتجبي : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله … } الخ ، أي : آثروا اللّهَ على مَن دونه ، وذلك بأنّ الله غرس أشجار التوحيد والمعرفة في قلوبهم ، وتجلّى لأرواحهم بنفسه ، فصار معنى حقيقة التجلّي منقوشاً في نفس أرواحهم وعقولهم . هـ . وقوله تعالى : { وأيَّدهم بروح منه } قال في في الحاشية الفاسية : هو مقام الشهود والتجلّي العياني ، وهو حقيقة السر عند القوم ، وهو علم يمتد ظله في الأرواح المواجَهة على حسب قابليتها واستعدادها ، كما خصصتها المشيئة الإلهية ، وهو التعليم الإلهامي للأولياء ، والتنزُّل الوحيي للأنبياء عليهم السلام . وعن ذلك الأمداد عُبر بالنفخ والإلقاء ، وباعتبار حياة الروح به وقوتها سُمي رُوحاً ، وإضافته إلى الله تعالى لأنه مقتبس من نور أوصافه . ومثالٌ انفعالي عن علمه ، وآثارٌ عن قدرته وكلامه . وبالجملة فالعلم الحقيقي الذاتي لله ، وكذا سائر صفاته ، والعلم العرضي المثالي الانفعالي لمَن خصّ سبحانه من عباده ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء ، { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } وكما أن الصُور المنطبعة في المرآة الصيقلة آثار ناشئة منها ، وحادثة من مواجهة الصور الحسية ، كذلك العلوم الممتدة في الأرواح المواجَهة ، ظلال وآثار عارضة ، منفعلة حادثة من حضرة الوجود الحقيقي ، والعلم الذاتي ، وهذا واضح لا شك فيه . الله الموفق . وقال الورتجبي : وأيّدهم بتجلّي ذاته لأرواحهم ، وما وفقهم في الصفات ، بل أغرقهم في بحر الذات . هـ . وقوله تعالى : { أولئك حزبُ الله } قال سهل : الحزب : الشيعة ، وهم الأبدال : وأرفع منهم الصدِّيقون . وقال بعضهم : حزب الله ، إذا نطقوا بهروا ، وإن سكتوا ظهروا ، وإن غابوا حضروا ، إن ناموا سهروا . هـ . وقال ابن عطاء : إنّ لله عباداً اتصالُهم به دائم ، وأعينهم به قريرة أبداً ، لا حياة لهم إلاّ به لاتصال قلوبهم به ، والنظر إليه بصفاء اليقين ، فحياتهم بحياته موصولة ، لا موت لهم ابداً ، ولا صبر لهم عنه ، لأنه قد سبى أرواحهم به ، فعلّقها عنده ، فثمَّ مأواها ، قد غشي قلوبهم من النور ما أضاءت به ، فأشرقت ، ونما زيادتها على الجوارح ، وصاروا في حِرز حماية ، أولئك حزب الله . وقال أبو عثمان : حزب الله مَن يغضب في الله ، ولا يأخذه فيه لومة لائم . جعلنا الله ممن تحقّق بجميع هذه الأوصاف بمنّه وكرمه . آمين . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .