Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 59, Ayat: 1-4)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { سَبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض } أي : نزّهه أهلُ السماوات السبع ، وأهلُ الأرضين السبع . وكرر الموصول هنا لزيادة التقرير ، والتنبيه على استقلال كل مِن الفريقين بالتسبيح . قال الكواشي : فيه إيماء إلى قدرة الله تعالى ، وأنه أهل لأن يُسبَّح لمنِّه على المؤمنين بنصرهم على أعدائهم ، { وهو العزيزُ الحكيم } ، قال ابن عطية : صفتان مناسبتان لِمَا يأتي بعدُ ، من قصة العدو الذي أخرجهم مِن ديارهم . هـ . رُويَ أنَّ هذه السورة بأسرها نزلت في بني النضير ، وهو رهط من اليهود ، من ذرية هارون عليه السلام ، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل لبعثته صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هم بقية الحبرْين اللذين كانا مع تُبع ، فنزلا المدينة انتظاراً له صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حين قَدِمَ المدينة صالحهم على ألاّ يكونوا عليه ولا له ، فلما ظَهَرَ يوم بدر ، قالوا : هو النبيّ الذي نعْتُه في التوراة : لا تُردُّ له رايةٌ ، فلما كان يوم أُحُد ما كان ، ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعبُ بن الأشرف في أربعين راكباً ، فحالف أبا سفيان عند الكعبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عليه السلام محمدَ بن مسلمة الأنصاري في فتية ، فقتل كعباً غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة ، وقد كان عليه السلام اطلع منهم على خائنةٍ ونقض عهدٍ ، حين أتاهم ومعه أبو بكر وعمر وعليّ ، ليستعينهم في دية الرجلين اللذَين قتلهما عَمرو بنُ أمية الضمري ، غلطاً ، فأجابوه على ذلك ، وأجسلوه تحت الحِصن ، وأمروا رجلاً منهم أن يطرح على النبي صلى الله عليه وسلم رَحىً ، فنزل جبريلُ فأخذ بيده وأقامه ، فرجع إلى المدينة ، وأمر المسلمين بالخروج إلى بني النضير ، وهم بقريةٍ يقال لها : زهرة ، فأمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروج من المدينة ، فاستمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فدسّ إليهم عبدُ الله بن أُبي وأصحابهُمن المنافقين : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ولئن خرجتم لَنَخْرُجنَّ معكم ، فحصّنوا أسوارَهم ، فحاصرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة ، وأمر بقطع نخلهم ، فلما قذف اللهُ في قلوبهم الرعب ، وأيسوا من نصر المنافقين ، طلبوا الصُلح ، فأبى عليهم إلاّ الجلاء ، على أن يَحْمِل كلُّ ثلاثة أبياتٍ على بعيرٍ ما شاؤوا من متاعهم ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ما بقي ، فخرجوا إلى الشام ، وإلى أذرعات وأريحا ، إلاّ بيتين آل أبي الحقيق ، وآل حُيَي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة ، وذلك قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب مِن ديارهم } بالمدينة ، أي : هو الذي تولّى إخراجهم ، لا بسبب فيه لأحد غيره . واللام في قوله : { لأول الحشر } متعلق بأخْرَج ، وهو اللام في قوله : { قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] أي : أخرجهم عند أول الحشر ، وكونه أول الحشر لأنّ هذا أول حشرهم إلى الشام ، وكانوا مِن سبط لم يُصبهم جلاء قط ، وهم أول مَن أُخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام ، وآخر حشرهم : إجلاء عُمر إياهم من خيبر إلى الشام ، أو : آخر حشرهم : حشر يوم القيامة ، قال ابن عباس رضي الله عنه : " مَن شك أنَّ المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية " فهم الحشر الأول ، وسائر الناس الحشر الثاني . وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا خرجوا : " امضوا ، فإنكم أول الحشر ونحن على الأثر " { ما ظننتم أن يخرجوا } ، لشدة بأسهم ، ومَنعَتهم ، ووثاقه حصونهم ، وكثرة عَددهم وعُدتهم ، { وظنوا أنهم مانعتهم حُصُونُهم من الله } أي : ظنوا أنّ حصونهم تمنعهم من بأس الله . والفرق بين هذا التركيب والنظم الذي جاء عليه التنزيل : أنّ في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وُثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي مصير ضميرهم اسماً لـ " أن " ، وإسناد الجملة إليه ، دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة ، لا يُبالَى معها بأحد يتعرض لهم ، أو يطمع في مغازيهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم . { فأتاهم اللهُ } أي : أمره وعقابه { من حيث لم يحتسبوا } من حيث لم يظنوا ، ولم يخطر ببالهم ، حتى قُتل " كعب " رئيسهم على يد أخيه رضاعاً . { وقَذَفَ في قلوبهم الرُّعْبَ } الخوف والجزع ، { يُخْربون بيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ، فكانوا يُخربون بواطنَها ، والمسلمون ظواهرَها ، لِمَا أراد الله مِن استئصال شأفتهم ، وألاَّ تبقى لهم بالمدينة دار ، ولا منهم دَيَّار . والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ، ليسدُّوا بها أفواه الأزفَّة ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيّد الخشب والساج ، وأمّا المؤمنون فدعاهم إلى التخريب إزالة مُتحصّنهم ، وأن تتسع لهم مجال الحرب . ومعنى تخريبهم إياها بأيدي المؤمنين : أنهم لما عرّضوهم بنكث العهد لذلك ، وكان السبب فيه فكأنهم أمروهم به ، وكلّفوهم إياه . { فاعتبِروا يا أُولي الأبصارِ } أي : فاتعِظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجهٍ لا تهتدي إليه الأفكار ، أو : فتأملوا فيما نزل بهؤلاء ، والسبب الذي استحقوا به ذلك ، فاحذروا أن تفعلوا مثَل فعلهم ، فتُعاقََبوا مثل عقوبتهم . قال البيضاوي : اتعِظوا بحالهم ، فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير الله . هـ . وهذا دليل على جواز القياس . { ولولا أن كتب اللهُ عليهم الجلاء } الخروج من الوطن ، على ذلك الوجه الفظيع { لعذَّبهم في الدنيا } بالقتل والسبي ، كما فعل ببني قريظة ، { ولهم في الآخرة عذابُ النار } الذي لا أشد منه ، { ذلك بأنهم } أي : إنما أصابهم ذلك بسبب أنهم { شاقُوا اللهَ } خالَفوه { ورسوله } وفعلوا ما فعلوا ، مما حكي عنهم من القبائح ، { ومَن يُشاقِّ اللهَ } ، وقرئ : " يشاقِق " على الأصل . والاقتصار على مشاققته لتضمنها مشاققته عليه السلام ، وليوافق قوله تعالى : { فإنَّ الله شديدُ العقاب } ، والجملة : إما نفس الجزاء على حذف العائد ، أي : شديد العقاب له ، أو : تعليل للجزاء المحذوف ، أي : يُعاقبه لأنّ الله شديد العقاب . الإشارة : " سبِّح لله " نزَّه الله تعالى مَن وجود الغيرية والإثنينية ما في سموات الأرواح من علوم الأحدية ، ونزّهه ما في أرض النفوس والعقول من البراهين القطعية عن الشبيه والنظير . والعارف الكامل هو الذي يجمع بين التنزيه والتشبيه في ذات واحدة ، في دفعة واحدة ، فالتنزيه من حيث ذات المعاني والتشبيه من حيث الأواني ، أو التنزيه من حيث الجمع ، والتشبيه من حيث الفرق ، أو التنزيه من حيث اسمه الباطن ، والتشبيه من حيث اسمه الظاهر . وانظر القشيري في مختصر الإشارات ، ولعل هذا المنزع هو الذي رام الجيلاني ، حيث قال في عينيته : @ وإياكَ والتنزيهَ فهو مُقيّدٌ وإياك والتشبيهَ فهو مُخَادِعُ @@ أي : لا تقف مع واحدٍ منهما ، فأطلق عنان المعاني في كل ما ترى ، ولا تشبه المعاني بشيء ، إذ ليس مثلها ولا معها فإياك أن تنزّه المعاني عن شيء ، فتقيّد عن الشهود فيه ، وإياك أن تشببها بشيء إذ ليس مثلها شيء في الوجود . والله تعالى أعلم . ولا يعلم هذا إلا أهل الذوق الكبير . ثم قال تعالى : { هو الذي أخرج } الخواطر الردية ، والخبائث اليهودية ، من ديار القلوب ، عند أول حشرها إلى الحضرة ، ما ظننتم أن يخرجوا ، لتمكنها من النفس ، وتمرُّنها معها ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونُهم من الله ، حيث تحصّنوا بتمكن العوائد ورسوخها في النفس ، ومخالطة الأحباب والعشائر ، والرئاسة والجاه والمال ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسِبوا ، حيث قيَّض لها شيخاً عارفاً ، وقذف في القلب خوفاً مزعجاً ، أو شوقاً مقلقاً ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فخرجت تلك الخبائث قهراً ، يُخربون بيوتهم ، أي : بيوت ظواهرهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، أي : بإعانة المشايخ والإخوان ، فطهَّروا بواطنهم من الخبائث ، وخرّبوا ظواهرهم من زينة الحس ، فحينئذ تعمّرت بواطنُهم بأسرار العلوم والمعارف ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وافعلوا مثل فعلهم ، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء من القلوب لعذّبهم في الدنيا بالحرص والجزع والطمع ولهم في الآخرة عذاب نار القطيعة ، بعد إسدال الحجاب في الدنيا ، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله إذ كل مخالفة إنما هي من النفس وجنودها في عالم الحكمة . ثم قال تعالى : { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً } .