Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 148-150)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { هَلُم } : اسم فعل ، وهو عند البصريين بسيط ، وعند الكوفيين مركب . انظر البيضاوي . يقول الحقّ جلّ جلاله : { سيقول الذين آشركوا } في الاحتجاج لأنفسهم : { لو شاء الله } عدم شركنا { ما أشركنا ولا } أشرك { آباؤنا ولا حرمنا من شيء } من البحائر وغيرها ، فلو لم نكن على حق مرضى عند الله ما أمهلنا ولا تركنا عليه فإمهاله لنا وتركه لنا على ما نحن فيه دليل على أنه أراده منا . والجواب عن شُبهتهم : أنه خلاف ما أنزل الله على جميع رسله ، والحق تعالى لم يتركهم على ذلك ، بل بعث لهم الرسل يكلفهم بالخروج عنه ، والإرادة خلاف التكليف ، وأيضًا : قولهم هذا لم يصدر منهم على وجه الاعتذار وإنما صدر منهم على وجه المخاصمة والاحتجاج . ولا يصح الاحتجاج بالقدر . والحاصل أنهم تمسكوا بالحقيقة ورفضوا الشريعة ، وهو كفر وزندقة ، إذ لا بد من الجمع بين الحقيقة في الباطن ، والتمسك بما جاءت به الرسل من الشريعة في الظاهر ، وإلاَّ فهو على باطل . ولذلك ردّ الله تعالى عليهم بقوله : { كذلك كذب الذين من قبلهم } الرسل ، فتمسكوا بالحقيقة الظلمانية ، { حتى ذاقوا بأسنا } أي : عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم { قل } لهم : { هل عندكم من علم } يدل على أن الله أمركم بالشرك ، وتحريم ما أحل ، وأنه رضي ذلك لكم ، { فتخرجوه } أي : فتظهروه { لنا } ، بل { إن تتبعون } في ذلك { إلا الظن } ولا تحقيق عندكم ، { وإن أنتم إلا تخرصون } تكذبون على الله تعالى ، وفيه دليل على أن الظن لا يكفي في العقائد . { قل } لهم : { فللَّه الحجة } على عباده ، { البالغة } ، حيث بعث الرسل مبشرين ومنذرين ، وأمروا بتوحيد الله وطاعته ، فكل من خالفهم قامت الحجة عليه ، هذا باعتبار التشريع الظاهر ، وأما باعتبار باطن الحقيقة ، فالأمور كلها بيد الله يضل من يشاء بعدله ، ويهدي من يشاء بفضله ، { فلو شاء لهداكم أجمعين } ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين ، { لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبيَاء : 23 ] ، فقول المشركين : { لو شاء الله … } الخ ، حق في نفسه ، لكنهم لم يعذَروا لإهمالهم الشريعة . { قل هلُم } أي : أحضروا ، { شهداءكم } أي : كبراءكم وأئمتكم ، { الذين يشهدون أن الله حرّم هذا } ، استحضرهم ليلزمهم الحجة ، ويَظهر بانقطاعهم ضلالهم ، وألاَّ متمسك لهم في ذلك . ثم قال لنبيه عليه الصلاة والسلام ـ : { فإن شهدوا } بشيء من ذلك ، { فلا تشهد معهم } أي : لا تصدقهم وبيِّن لهم فساده { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا } ، والأصل أن يقول : ولا تتبع أهواءهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ، للدلالة على أن مكذب الآية متبع للهوى لا غير ، وأن متبع الحق لا يكون إلا مصدقًا لها . { و } تتبع أيضًا { الذين لا يؤمنون بالآخرة } كعبدة الأوثان ، { وهم بربهم يعدلون } يجعلون له عديلاً ومثيلاً . الإشارة : اعلم أن الحقّ جلّ جلاله كلف عباده في هذا الدار ، بالقيام بوظيفتين : الشريعة والحقيقة ، الشريعة محلها الظواهر ، والحقيقة محلها البواطن ، الشريعة تقتضي التكليف ، والحقيقة تقتضي التعريف ، الشريعة شهود الحكمة ، والحقيقة شهود القدرة ، وجعل الشريعة رداء الحقيقة ولباسًا لها ، ثم جعل سبحانه في القلب عينين ، وتسمى البصيرة ، إحداهما تنظر للحكمة فتقوم بالشرائع ، والأخرى تنظر للقدرة فتقوم بالحقائق . فقوم فتحوا عين الحقيقة وأعموا عين الشريعة ، وهم أهل الكفر والزندقة ، ولذلك قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا } ، وقوم فتحوا عين الشريعة وأهملوا عين الحقيقة ، وهم عوام المسلمين من أهل اليمن ، فلذلك طال خصمهم للمقادير الأزلية مع إقرارهم بها ، فإن أنكروها فقد عَمِيَتْ بصيرتهم . وقوم أحبهم الله ، ففتح لهم عين الحقيقة ، فأسندوا الأفعال كلها إلى الله ولم يروا معه سواه ، فتأدبوا في الباطن مع الأشياء كلها ، وفتح لهم عين الشريعة فقاموا بوظائف العبودية على المنهاج الشرعي ، وهم الأولياء العارفون بالله ، فمن تمسك بالحقائق العلمية دون الشرائع كان زنديقًا ، ومن تمسك بالشرائع دون الحقائق كان فاسقًا ، ومن تمسك بهما كان صدِّيقًا ، فمن رام تمسك بالشرائع ، ولم تُسعفه الأقدار ، فإن كان عن سُكر وجذب فهو معذور ، وإن كان عن كسل فهو مخذول ، وإن كان عن إنكار لها فهو مطرود معدود من حزب الشيطان ، والعياذ بالله . ثم بَيَّن ما حرم عليهم ، فقال : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } .