Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 61, Ayat: 1-4)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { سَبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيزُ الحكيم } . ولمَّا قال بعضُ الصحابة : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لبذلنا في أموالنا ، فنزلت أية الجهاد ، فتباطأ بعضُهم ، فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون } . وقيل : لمَّا أخبر الله بثواب شهداء بدر ، فقالوا : والله لئن شَهِدنا قتالاً لنُفْرِغَنَّ فيه وُسْعَنا ، ففرُّوا يوم أُحُد فنزلت . وقيل : نزلت فيمن يمدح كذباً ، حيث كان يقول : قتلتُ ، ولم يقتل ، وطعنتُ ، ولم يطعن ، وقيل : كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ونكأ فيهم ، فقتله صُهيب ، وانتحل قتله آخر ، فنزلت في المنتحِل . أي : لأيّ شيء تقولونه من الخير والمعروف ، على أنّ مدار التوبيخ إنما هو عدم فعلهم ، وإنما وجّه إلى قولهم تنبيهاً على تضاعيف معصيتهم ، لبيان أنَّ المنكَر ليس ترك الخير الموعود فقط ، بل الوعد به أيضاً ، وقد كانوا يحسبونه معروفاً ، ولو قيل : لِمَ لا تفعلون ما تقولون ، لفُهم منه أنّ المنكَر إنما هو ترك المفعول . { كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } ، هو بيان لغاية قُبح ما فعلوا ، وفرط سماحته ، و " كَبُرَ " جارية مجرى نعم ، بزيادة معنى التعجُّب ، ومعنى التعجُّب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأنّ التعجُّب لا يكون إلاّ مِن شيءٍ خارج عن نظائره ، وفي " كَبُرَ " ضمير مبهَم مفسَّر بالنكرة بعده ، و " أن تقولوا " هو المخصوص بالذم ، وقيل : قصد فيه التعجُّب من غير لفظه ، وأُسند إلى " إن تقولوا " ، ونصب " مقتاً " على تفسيره ، دلالةً على أنّ قولهم ما لا يفعلون مقتٌ خالص لا شوب فيه ، كأنه قيل : ما أكبر مقتاً قولهم بلا عمل . ثم بيَّن ما هو مَرْضِي عنده ، بعد بيان ما هو ممقوت بقوله : { إِنَّ اللهَ يُحب الذين يُقاتِلون في سبيله } ، وهو المقصود بالذات من السورة وقوله : { صفًّا } أي : صافِّين أنفسهم ، أو مصفوفين ، مصدر وقع موقع الحال ، { كأنهم بُنيان مرصُوص } لاصق بعضه ببعض ، وقيل : أريد : استواء نيّاتهم في حرب عدوّهم ، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رُصَّ بعضه إلى بعض ، وهو حالٌ أيضاً ، أي : مشبّهين بالبنيان الملاصق . قال ابن عرفة : التشبيه في الثبات وعدم الفرار كثبوت البناء ولزومه . هـ . الإشارة : { سَبَّحَ لله } ، قال الورتجبي : لمَّا عاينوا آيات الله طلبوا فيها مشاهدة الله ، فوجدوا في نفوسهم تأثير مباشرة نور قدرة الله ، فقدَّسُوه أنه باين بوجوده من الحدثان . هـ . قوله تعالى : { كَبُرَ مقتًا } … الخ ، قال القشيري : خُلفُ الوعد مع كلِّ أحدٍ قبيحٌ ، ومع الله أقبح ، ويُقال : إظهارُ التجلُّدِ من غير شهودِ مواضعَ الفقر إلى الحقِّ في كل نَفَسٍ يؤذِنُ بالبقاء مع ما حصل به الدعوى ، واللهُ يحب التبرِّي من الحول والقوة . ويقال : لم يتوعَّد على زَلَّةٍ بمثْلِ ما توعَّد على هذا ، بقوله : { كَبُرَ مقتًا عند الله } . هـ . ولذا فرّ كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير ، وآثروا السكوت ، كما قال بعضهم : @ لـو كـان ينفعـني وعظـي وعظتُكـم أنـا الغريـق فما خوفـي مِن البلـل @@ قال أبو زيد الثعالبي : وهذا إن وَجد مَن يكفيه ويقوم عنه في الوعظ ، وإلاّ فلا ينبغي السكوت . قال الباجي في سنن الصالحين ، عن الأصمعي : بلغني أنَّ بعض الحُكماء كان يقول : إني لأعظكم ، وإني لكبير الذنوب ، ولو أنَّ أحداً لا يعظ أخاه حتى يُحْكِم أمرَ نفسه لتُرك الأمر بالخير ، واقتُصر على الشر ، ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس ، وتذكير مِن النسيان . وقال أبو حازم : إني لأعظ الناسَ ، وما أنا بموضع الوعظ ، ولكن أُريد به نفسي . هـ . قلت : وكان شيخ شيوخنا سيدي على الجمل العمراني رضي الله عنه يقول حين يُذَكِّر : نحْن ما ننبَحُ إلاّ على نفوسنا . هـ . ثم قال : وقال الحسن لِمطرف : عِظ أصحابك ، فقال : أخاف أنْ أقولَ ما لا أفعل ، فقال : يرحمك الله ، وأيّنا يفعل ما يقول ، ودّ الشيطانُ لو ظفر منكم بهذه ، فلم يأمر أحدٌ منكم بمعروف ولم ينهَ عن منكر . هـ . وفي حديث الجامع : " مُروا بالمعروف وإنْ لم تَفعلُوه ، وانْهَوْا عن المنكرِ وإن لم تَتجنبُوه " وقال الغزالي : مَن ترك العمل خوف الآفة والرياء فإنَّ ذلك منتهى بغية الشيطان منه إذ المراد منه ألاَّ يفوته الإخلاص ، ومهما ترك العمل فقد ضيَّع العمل والإخلاص . هـ . قلت : ولا شك أنَّ الوعظ مِن المخلصين وأهل القلوب ، أشد تأثيراً من غيرهم ، فإنَّ الكلامَ إذا خرج من القلب وقع في القلب ، وإذا خرج من اللسان حدّه الآذان ، وفي الحِكَم : " تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم ، فحيث ما صار التنوير وصل التعبير " . فأهل النور تسري أنوارُهم في الجالسين قبل أن يتكلموا ، وربما انتفع الناسُ بصمتهم ، كما ينتفعون بكلامهم ، وأمّا أهل الظُلمة وهو مَن في قلبه حُب الدنيا فكلامهم قليل الجدوى ، تسبق ظلمةُ قلوبهم إلى قلوب السامعين ، فلا ينتفع إلاّ القليل . ثم ذكر مساوىء اليهود والنصارى ، بسبب جُبْنهم وسوء أدبهم ، حين أُمروا بالجهاد ، وبفكرهم بعد ظهور الحق ، تحذيراً مما صنعوا ، فقال : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي } .