Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 61, Ayat: 5-9)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين عن الجهاد قول موسى لبنى إسرائيل ، حين ندبهم إلى قتل الجبابرة ، بقوله : { يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ } [ المائدة : 21 ] الآية ، فلم يمتثلوا أمره ، وعصوه أشد عِصيان ، حيث قالوا : { يَٰمُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ … } [ المائدة : 22 ] الآية ، إلى أن قالوا : { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ … } [ المائدة : 24 ] الآية . وآذوه عليه السلام كل الإذاية فقال : { يا قوم لِمَ تُؤذونني وقد تعلمون أني رسولُ الله إِليكم } ، فالجملة : حال ، والحال أنكم تعلمون عِلماً قطعياً ، مستمراً ، بمشاهدة ما ترون من المعجزات الباهرة ، أني رسولُ الله إليكم ، لأُرشدكم إلى خير الدنيا والأخرة ، ومِن قضية عِلْمكم أن تُبالغوا في تعظيمي ، وتُسارعوا إلى طاعتي ، { فلما زاغوا } أي : أصرُّوا على الزيغ عن الحق الذي جاءهم به ، واستمروا عليه { أزاغ اللهُ قلوبَهم } صرفها عن قبول الحق ، والميل إلى الصواب ، لصرف اختيارهم نحو الغيّ والإضلال ، { واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين } أي : لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق ، المصرِّين على الغواية ، هدايةً موصّلَة إلى الطاعة وحسن الأدب ، والمراد بهم المذكورون خاصة ، والإظهار في موضع الإضمار لذمِّهم بالفسق وتعليل عدم الهداية ، أو جنس الفاسقين ، وهم داخلون في حكمهم دخولاً أوليًّا ، وأَيًّا ما كان فوصفهم بالفسق نظر إلى ما في قوله تعالى : { فٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } [ المائدة : 25 ] ، هذا الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم ، ويرتضيه الذوق السليم . انظر أبا السعود . { وإِذ قال عيسى ابنُ مريم يا بني إِسرائيلَ } ، لم يقل : يا قوم ، كما قال موسى ، لأنه لا نسب له فيهم من جهة الأب حتى يكونوا مِن قومه : { إِني رسولُ الله إِليكم } ، كان رسولاً لهم ولمَن دخل معهم ، كالنصارى ، { مُصَدِّقًا لما بين يديَّ مِن التوراة } ، وهو من إحدى الدواعي إلى تصديقهم إياه ، { ومُبشِّرًا برسولٍ يأتي من بعدي } ، وهو من الدواعي أيضاً إلى تصديقه لأنَّ بشارته به عليه السلام واقعة في التوراة ، أي : أُرسلت إليكم في حال تصديقي للتوراة ، وفي حال بشارتي برسول يأتي من بعدي ، يعني : أنَّ ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه ، مَن تقدّم ومَن تأخّر ، وهذا الرسول { اسمُه أحمدُ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم . قال القشيري : كل نبيًّ بشّر قومَه بنبيِّنا صلى الله وعليه وسلم ، وأفرد اللهُ عيسى بالذِّكْرِ في هذا الموضع لأنه أخِرُ نبيِّ قبل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، فبيّن أنّ البشارة به عَمَّتْ جميعَ الأنبياء واحداً بعد واحدٍ حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام . هـ . قال الكواشي : و " أحمد " بناء مبالغة ، والمعنى : أنَّ الأنبياء كلهم حمّادون الله ، وهو أكثر حمداً مِن غيره ، وكلهم محمودون لِما فيهم جميل الأخلاق ، وهو أكثرهم خِلالاً حميدة . ثم قال : وعن كعب : قال الحواريون : يا روح الله هل بعدنا من أمة ؟ قال : نعم ، أمة أحمد ، حكماء ، علماء ، أبراراً ، أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى باليسير من العمل . هـ . وقال السهيلي : في اسمه " أحمد ومحمد " إشارة إلى كونه خاتماً لأنَّ الحمد مشروع عند انقضاء الأمور واختتامها وتمامها . هـ . { فلما جاءَهم } أيك عيسى ، أو محمد عليهما السلام { بالبيناتِ } المعجزات الظاهرة ، { قالوا هذا سِحرٌ مبين } ظاهر سحريته ، وقرأ الإخوان " ساحر " وصف للرسول . { ومَن أظلمُ ممن افترى على الله الكذبَ وهو يُدْعَى إِلى الإِسلام } أي : أيّ الناس أشد ظلماً ممن يُدْعى إلى سعادة الدارين ، فيضع موضع الإجابة الافتراءَ على الله عزّ وجل ، بقوله لكلامه الذي دعا عباده إلى الحق : هذا سحر ؟ أي : هو أظلم من كل ظالم ، { واللهُ لا يهدي القومَ الظالمين } أي : لا يُرشدهم إلى ما فيه صلاحهم لعدم توجههم إليه . { يُريدون لِيُطفئوا نورَ الله بإفواههم } أي : دينه أو : كتابه ، أو حجته النيِّرة ، واللام مزيدة ، أي : يُريدون إطفاءَ نور الله ، أو للتعليل والمفعول محذوف ، أي : يريدون الكذب ليُطفئوا نورَ الله ، وهو تهكُّم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام ، بقولهم في القرآن : هذا سحر ، مُثِّلت حالهم بحال مَن ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه ، { والله مُتِم نُوره } أي : مبلغه إلى غاية يُنشره في الآفاق ، ويُعليه على الأديان { ولو كَرِه الكافرون } . { هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى } بالقرآن ، أو بالمعجزات ، أو بالهداية { ودين الحق } الملة الحنيفية { ليُظهره على الدين كلِّه } أي : ليعليه على جميع الأديان المخالفة له ولقد أنجز الله عزّ وعلا وعده ، حيث جعله بحيث لم يبقَ دين من الأديان إلاَّ وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام . وعن مجاهد : إذا نزل عيسى لم يكن إلا دين الإسلام . هـ . { ولو كَرِه المشركون } ذلك ، قال الطيبي : قوله تعالى : { ومَن أظلم … } الخ ، حذَّر تعالى مما لقي قوم موسى من إزاغة القلوب ، والحرمان من التوفيق ، بسبب الأذى ، وما ارتكب قوم عيسى بعد مجيئه بالبينات من تكذيبه وقولهم فيه : " هذا سحر مبين " ، ألاَ ترى كيف جمع الكل في قوله : { ومن أظلم … } الآية ، قال : وقضية الدعوة إلى الإسلام توقير مَن يدعو إليه ، وإجابة دعوته . ثم قال : وأمّا قوله : { والله لا يهدي القوم الظالمين } هو تذييل لقوله : { ومَن أظلم ممن أفترى … } الآية لأنّ الظلم هو : وضع الشيء في غير محله ، وأيُّ ظلم أعظم من جعل إجابة الداعي إلى الله مفترياً ؟ ! والكفر : التغطية ومحاولة إطفاء النور إخفاء وتغطية ، ودين الحق هو التوحيد ، والشركُ يقابله ، ولذلك قال : { ولو كره المشركون } . هـ . الإشارة : سوء الأدب مع الأكابر ، وإذايتهم ، سبب كل طرد وبُعد ، وسبب كلّ ذُل وهوان ، وحسن الأدب معهم وتعظيمهم ، سبب كُلِّ تقريب واصطفاء ، وسبب كُلِّ عز ونصر ، ولذلك قال الصوفية : " اجعل عَمَلك مِلحًا ، وأدبك دقيقًا " . ألآ ترى بنى إسرائيل حين أساؤوا الأدب مع نبي الله موسى بقولهم : { فَـٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلآ … } [ المائدة : 24 ] الخ كيف أذلَّهم الله وأخزاهم إلى يوم القيامة ، وانظر أصحابَ نبينا صلى الله عليه وسلم حيث تأدّبوا غاية الأدب ، وقالوا يوم بدر : " لا نقول كما قالت بنو إسرائيل : اذهب أنت وربك ، ولكن اذهب أنت وربك ونحن معك ، والله لو خُضت بنا ضحضاح البحر لخضناه معك " كيف أعزَّهم الله ونصرهم على سائر الأديان ، ببركة حُسن أدبهم رضي الله عنهم وأرضاهم . ثم حضَّ على الجهاد المقصود بالذات ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ } .