Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 63, Ayat: 9-11)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تُلهكم أموالكُم } أي : لايشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها ، والاعتناء بمصالِحها ، والتمتُّع بها ، { ولا أولادُكم } أي : سروركم بهم ، وشفقتكم عليهم ، والاستغراق في الأسباب ، للنفقة عليهم { عن ذكر الله } أي : عن الاشتغال بذكره عزّ وجل ، من الصلاة ، والذكر ، وسائر العبادات ، والمراد : نهيهم عن التلهي بها ، وتوجيه النهي لهم للمبالغة ، كقوله تعالى : { وَلآ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَآنُ قَوْمٍ } [ المائدة : 2 ] ، { ومن يفعل ذلك } أي : التلهي بالدنيا عن الدين { فأولئك هم الخاسرون } الكاملون في الخسران ، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني . { وأَنفِقوا مِن مَّا رزقناكم } أي : بعض ما رزقناكم ، تفضُّلاً ، من غير أن يكون حصوله من جهتكم ادخاراً للآخرة ، وهو عام في المفروض والمندوب ، { مِن قبل أن يأتي أحدَكُم الموتُ } بأن يُشاهد دلائله ، ويُعاين أمارته ومخايله . وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام بما قدّم ، والتشويق لِما أخّر ، { فيقولَ } حين تَيَقُنِه بحلوله : { لولا أخَّرتني } أمهلتني { إلى أجلٍ قريب } أمدٍ قصيرٍ ، { فأصَّدَّقَ } بالنصب جواب التمني { وأكن من الصالحين } بالجزم ، عطفاً على محل { فأصَّدق } أو : على توهُّم إسقاط الفاء ، كأنه قيل : إن أخرتني أصَّدَّق وأكن ، وقرأ أبو عمرو بالنصب عطفاً على اللفظ . { ولن يُؤخر اللهُ نفساً } لن يمهلها { إِذا جاء أجَلُهَا } آخر عُمْرِها المكتوب في اللوح . { واللهُ خبير بما تعملون } فيُجَازيكم عليه ، إن خيراً فخير ، وإن شرًّا فشر ، فسارعوا إلى الخيرات ، واستعِدوا لما هو آت . قال ابن عباس : ما قصَّر أحد في الزكاة والحجِّ إلاَّ سأل الرجعة عند الموت . هـ . والظاهر : أنَّ كل مَن قصَّر في الاجتهاد ، وتعمير الأوقات ، كله يطلب الرجعة ، وكل مَن أدركته المنية قبل الوصول إلى الله مغبون ، ولذلك ذكر التغابن بعدها ، وفي الحديث : " ما مِن أحدٍ إلاَّ سيندم عند الموت ، إن كان عاصياً أن لو تاب ، وإن كان طائعاً أن لو زاد " أو كما قال صلى الله عليه وسلم . قال في غريب المنتقى : إنّ العبد يقول عند كشف الغطاء : يا ملك الموت أَخِّرني يوماً أعتذر فيه إلى ربي ، وأتوب وأتزوّد صالحاً لنفسي ، فيقول المَلك : فَنيت الأيامُ ، فلا يوم ، فيقول : أخَّرني ساعة ، فيقول : فَنِيَت الساعات فلا ساعة . هـ . قيل : لمَّا كانت سورة المنافقين رأس ثلاث وستين سورة ، أُشير فيها إلى وفاته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { ولن يُؤخر اللهُ نفساً إِذا جاء أجلها } فإنه صلى الله عليه وسلم مات على رأس ثلاث وستين سنة وعقبها بالتغابن ، ليظهر التغابن في فقده صلى الله عليه وسلم . هـ . الإشارة : قد نهى الله تعالى عن الاشتغال عن ذكره بالأموال والأولاد ، ويُقاس عليه سائر القواطع ، فلا عذر للعبد في تركه في وقت من الأوقات ، فما مِن وقت من الأوقات إلاَّ وله حق جديد ، وأمر أكيد ، لا يُقضى في غيره ، فحقوق الأوقات لا تقضى ، بخلاف الحقوق التي لها أوقات محدودة ، فإنها تُقضى في غيرها ، ولمّا كان الذِكر يُطهِّر القلب ، ويُخرج ما فيه من حب الدنيا وغيرها ، أمر بالإنفاق بعد الأمر به ليسهل الإنفاقَ على العبد . قال بعض الحكماء في مدح الذكر والترغيب فيه : الذكر منشور الولاية ، ولا بُد منه في البداية والنهاية ، وهو يُثمر أحوالاً شريفة ، وماقامات عالية منيفة ، وعلوماً لطيفة ، ويحيي عوالم طالما كانت قَبْلُ مواتاً ، ويُلبِسُ النفسَ وجنودَها ذلة وسُبَاتاً ، ونظيره إذا وصل للقلب : كدخول الماء في الأسراب ، فإنه يُخرج ما فيها من الحشرات والدواب ، فكذلك الذكر ، إذا صدم القلب ، ودخل سُويداءه ، فإنه يُخلصه مِن مساكنة صلصال النفس ، ويُزيل عن ناظره الغشاوة واللبس ، ولهذا كان أفضل الأعمال ، وأزكى الأحوال وفُضّل على جهاد السيف والقتال . هـ . وأنفِقوا مما رزقناكم من العلوم والمعارف ، لمَن يطلبها وكان أهلاً لها ، بعد إنفاق ما عنده من الحس ، وإلاَّ فلا خير في فقير شحيح ، فإنه مِن أقبح كل قبيح . فانتهزوا الفرصة ، وبادِروا نفوذ الأجل ، فالترقي إنما تهو في هذه الدار . قال القشيري : لا تَغْتَرُّوا بسلامةِ أوقاتِكم ، وتَرَقَّبوا بغَتَات آجالكم ، وتأهَّبوا لِما بين أيديكم من الرحيل ، ولا تعرجوا في أوطان التسويف . هـ . وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .