Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 63, Ayat: 5-8)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { وإِذا قيل لهم } عند ظهور نفاقهم : { تعالَوا يستغفر لكم رسولُ الله لَووا رؤوسَهم } أي : عطفوا استكباراً . وقرأ غير نافع بالتشديد للمبالغة . { ورأيتهم يصُدُّون } أي : يُعرضون عن القائل ، أوعن الاستغفار ، { وهم مستكبرون } عن الاعتذار والاستغفار . " رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المُرَيْسيع وهوماءٌ لهم وهزمهم ، وقتلهم ، ازدحم على الماء " جهجاه " أجير لعُمر مع سِنانٍ حليف لعبد الله بن أُبيّ المنافق فصرخ جهجاه : يا للمهاجرين ! وصرخ سنان : يا للأنصار ! فأعان جَهْجَاهاً جُعال من فقراء المهاجرين ، ولطم سناناً ، فقال ابنُ أُبيّ : أُوَقد فعلوها ، وقال : وما صحبنا محمداً إلا لنُلطَم ! وما مثلنا ومثلهم إلاَّ كما قائل القائل : سمِّن كلبك يَأكُلْكَ ! والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ . ثم قال لقومه : كُفوا طعامكم عن هذا الرجل ، ولا تُنفقوا على مَن عنده حتى ينفضُّوا ويتركوه ، فسمع ذلك زيدُ بن أرقم ، وكان حدثاً ، فقال : أنت والله الذليلُ ، المبَغَّضُ في قومك ، ومحمد على رأسه تاج المعراج ، في عزّ من الرحمن ، وقوةٍ من المسلمين ، فقال عبدالله : اسكت ، فإنما كنتُ ألعب ، فأخبر زيدٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر رضي الله عنه : دعني أضرب عنقَ المنافق ! فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إذن تُرْعَدُ أنوفٌ كثيرة بيثرب " قال : فإن كرهت أن يقتله مُهاجريّ ، فمُر به أنصاريًّا ، فقال : " فكيف إذا تحدّث الناسُ أنّ محمداً يقتل أصحابه ؟ " فأرسل صلى الله عليه وسلم له ، فأتى ، فقال : " أنت صاحب الكلام الذي بلغني " ؟ فقال : والذي أنزل عليك الكتاب ما قلتُ شيئاً من ذلك ، وإنّ زيداً لكاذب ، وهو قوله : { اتخَذوا أَيمانهم جُنَّة } فقال الحاضرون : يا رسول الله ! شيخُنا وكبيرُنا ، لا تُصدق عليه كلام غلام ، عسى أن يكون قد وَهم ، قال زيد : فوجدتُ في نفسي ، ولآمَنِي الناسُ ، فلزمتُ بيتي ، فلما نزلت الآية ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لزيد : " يا غلام إنَّ الله قد صَدَّقك وكذّب المنافقين " ، فلما بان كذب عبدالله قيل له : قد نزلت فيك آيٌ شِدادٌ ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ، وقال : أمرتموني أن أومن فآمنتُ ، وأمرتموني أن أزكي مَالي ، فزكّيتُ ، ما بقي لي إلاّ أن أسجد لمحمد ، فنزل : { وإذا قيل لهم تعالوا … } الآية ، وما بقي إلاّ أياماً حتى اشتكى ومات . قاله النسفي ، فانظره ، مع أنّ سورة براءة متأخرة عن هذه ، وفيها : { وَلآ تُصَلِ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم … } [ التوبة : 84 ] التي نزلت فيه . قالت تعالى : { سواءٌ عليهم أّسْتغفَرتَ لهم أم لم تستغفرْ لهم } ، أي : لا مساغ للنصح فيهم ، { لن يغفر اللهُ لهم } أي : ما داموا على النفاق . والمعنى : سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه ، ولا يعتدون به لكفرهم ، أو لأنّ الله لا يغفر لهم أبداً ، { إِنَّ اللهَ لا يهدي القوم الفاسقين } لإصرارهم على الفسق ، ورسوخهم في الكفر والنفاق . والمراد : إما هم بأعيانهم ، والإظهار في موضع الإضمار لبيان غلوهم في الفسق ، أو : الجنس ، وهم داخلون في زمرتهم دخولاً أولياً . { هم الذين يقولون } للأنصار : { لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضوا } يتفرقوا ، وهذه المقالة كانت السبب في استدعائه إلى الاستغفار ، كما تقدّم ، فحقها التقديم قبل قوله : { وإِذا قيل لهم تعالوا } وإنما أُخرت ليتوجه العتاب إليه مرتين ، كما تقدّم في سورة البقرة . ثم قال تعالى ، في الرد على الخبيث : { ولله خزائنُ السموات والأرض } ، فهو رد وإبطال لما زعموا من أنَّ عدم إنفاقهم يؤدي إلى انفضاض الفقراء من حوله صلى الله عليه وسلم ببيان أنَّ خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة ، يُعطي مَن يشاء ، ويمنع مَن يشاء ، فيرزق منها المهاجرين ، وإن أمسك أهلُ المدينة عنهم ، { ولكنَّ المنافقين لا يفقهون } ولكن عبد الله وأضرابه لايفقهون ذلك فيهتدون ، بما يُزيِّن لهم الشيطان . { يقولون لئن رجعنا } من غزوة بني الصطلق { إِلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها } يعني : نفسه لعنه الله { الأذلَّ } يعني : جانب المؤمنين ، وإسناد القول بذلك إلى المنافقين لرضاهم به ، فردّ تعالى عليهم ذلك بقوله : { وللهِ العِزَّةُ ولرسوله وللمؤمنين } أي : ولله الغلبة والعزّة ، ولِمن أعزّه من رسوله والمؤمنين ، لا لغيرهم ، كما أنَّ المَذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين . وعن بعض الصالحات ، وكانت في هيئة رثّة من الفقر : ألستُ على الإسلام ، وهو العزّ الذي لا ذُلّ معه ، والغنى الذي لا فقر معه ؟ وعن الحسن بن عليّ رضي الله عنه : أنّ رجلاً قال له : إنَّ فيك تيهاً ؟ قال : ليس بتيه ، ولكنه عزّة ، وتلا هذه الآية . هـ . { ولكنَّ المنافقينَ لا يعلمون } ذلك لفرط جهلهم وغرورهم ، فيهذون ما يهذون . رُوي أنَّ ولد عبدالله بن أُبيّ ، واسمه عبدالله ، " وكان رجلاً صالحاً ، لَمَّا سمع الآية جاء إلى أبيه ، فقال له : أنت والله يا أبت الذليل ، ورسول الله العزيز ، ووقف على باب السكة التي يسلكها أبوه ، وجرّد السيف ، ومنعه الدخول ، وقال : والله لا دخلتَ منزلك إلاَّ أن يأذن في ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله في أذل حال ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه : " أن خَلِّه يمضي إلى منزله ، وجزاه خيراً " فقال : الآن فنعم . هـ . الإشارة : مَن تكبّر عن حط رأسه للأكابر ففيه خصلة من النفاق ، والمراد بالأكابر : الأولياء العارفون بالله ، مَن تكبّر عنهم مات ، وفيه بقية مِن النفاق ، إذ لا يخلو منه إلاّ بالتطهير الكبير على أيدي المشايخ ، وكذلك مَن منع الناس مِن الإنفاق على أهل النسبة ، كائناً ما كانوا ، فشُؤمه الحرمان من نسيم أهل الوصلة ، { وللّه خزائن السماوات والأرض } أي : خزائن الأرزاق الحسية والمعنوية ، فقد يُعطي أحدهما دون الآخر ، وقد يعطيهما معاً ، أو : يمنعهما معاً ، على حسب المشيئة ، قال رجل لحاتم الأصم : من أين تأكل ؟ فقال : { وللّه خزائن السماوات والأرض } وقال الجنيد : خزائن السماوات : الغيوب ، وخزائن الأرض : القلوب ، وهم علاّم الغيوب ، ومُقلِّب القلوب . وكان الشبلي يقرأ : { وللّه خزائن السماوات والأرض } ويقول : فأين تذهبون . هـ . أي : حين تهتمون بالرزق بعد هذه الآية . { ولله العزةُ ولرسوله وللمؤمنين } ، قال بعضهم : عزة الله : قهره ، وعزته لرسوله : إظهاره ، وعزتُه للمؤمنين : نصره إياهم على مَن آذاهم . وقيل : عزة الله : الولاية { هُنَالِكَ ٱلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ } [ الكهف : 44 ] ، وعزة الرسول : الكفاية والعناية ، وعزة المؤمنين : الرفعة والرعاية ، وقيل : عزة الله : الربوبية ، وعزة الرسول : النبوة ، وعزة المؤمنين : العبودية ، فإذا أردتَ أيها العبد أن تكون عزيزاً فارفع همتك عن الخلق ، وسُد باب الطمع ، وتحلَّ بحلية الورع . قال بعضهم : والله ما رأيتُ العزّ إلاَّ في رفع الهمة عن الخلق ، وقال آخر : ما قُذِّر لماضغيك أن يمضغاه فلا بدّ أن يمضغاه ، فامضغه ويحك بعز ، ولا تمضغه بذل . هـ . ولمّا ذمَّ المنافقين بأمرهم بالإمساك عن الإنفاق أَمَرَ المؤمنين به ، وقدَّم الأمر بذكره ، تمهيداً ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ } .