Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 64, Ayat: 1-4)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { يُسبِّح لله ما في السماوات وما في الأرض } أي : يُنزّهه سبحانه جميعُ ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه ، قال القشيري : المخلوقات بجملتها مُسَبِّحةٌ لله ، ولكن لا يَسْمَعُ تسبيحَها مَن فيه طَرَشُ النكرة . هـ . { له الملكُ وله الحمدُ } لا لغيره إذ هو المبدىء لكلّ شيء ، وهو القائم به ، والمهيمن عليه ، وهو المُولي لأصول النِعم وفروعها ، وأمّا ملك غيره فاسترعاء من جنابه ، وحمد غيره اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يديه . فتقديم الظرفين للاختصاص . { وهو على كل شيءٍ قديرٌ } لأنّ نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى كل سواء . { هو الذي خَلَقَكُم } خلقاً بديعاً ، حائزاً لجميع الكمالات العلمية والعملية ، ومع ذلك { فمنكم كافرٌ } أي : فبعض منكم مختار للكفر كاسباً له ، على خلاف ما تستدعيه خِلقته ، { ومنكم مؤمن } مختار للإيمان ، كاسباً له ، على حسب ما تقتضيه خِلقته ، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان ، شاكرين لنِعم الخلق والإيجاد ، وما يتفرّع عليهما من سائر النِعم ، فما فعلتُم ذلك مع تمام تمكُّنكم منه ، بل تشعّبتم شعباً ، وتفرقتم فِرَقاً . وتقديم الكفر لأنه الأغلب والأنسب للتوبيخ . قال القشيري : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } أي : في سابق علمه سمَّاه كافراً ، لعلمه أنه يكفر ، وكذلك المؤمن . هـ . قال أبو السعود : حَمْله على ذلك مما لا يليق بالمقام ، فانظره . { واللهُ بما تعملون بصير } فيُجازيكم بذلك ، فاختاروا منه ما ينفعكم من الإيمان والطاعة ، وإياكم وما يرديكم من الكفر والعصيان . { خَلَقَ السماوات والأرضَ بالحق } بالحكمة البالغة ، المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية ، حيث جعلها مقرًّا للمكلّفين ليعملوا فيُجازيهم ، { وصوَّركم فأّحْسَن صُوَركم } حيث أنشأكم في أحسن تقويم ، وأودع فيكم من القُوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ، ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة ، وخصَّكم بخلاصة خَصائص مُبدعاته ، وجعلكم أنموذجَ جميع مخلوقاته ، فالكائنات كلها منطوية في هذه النشأة . قال النسفي : أي : خلقكم أحسن الحيوان كلّه ، وأبهاه ، بدليل : أنّ الإنسان لا يتمنّى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور ، ومِن حُسن صورته : أنه خلق منتصباً غير منكبٍّ ، ومَن كان دميماً ، مشوّه الصورة ، سمج الخلقة ، فلا سماجة ثمَّ ، ولكن الحسن على طبقات ، فلانحطاطها عمّا فوقها لا تستملح ، ولكنها غير خارجة عن حدّ الحُسن . وقال الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال والبيان . هـ . قلت : وما أشار إليه هو الذي نظمه الجيلاني في عينيته ، حيث قال : @ وكُلُّ قبيحٍ إن نَسَبْتِ لحُسْنِه أتتك معاني الحُسْنِ فيه تُسارعُ يُكَمِّل نُقصانَ القبيحِ جَمَالُه فما ثَمَّ نُقصانٌ . ولا ثَمَّ بَاشِعُ @@ { وإِليه المصيرُ } في النشأة الأخرى ، لا إلى غيره ، فأحسِنوا سرائركم ، باستعمال تلك القوى والمشاعر فيما خُلقن له . { يعلمُ ما في السماوات والأرض ويعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون } أي : ما تُسرونه فيما بينكم ، وما تُظهرونه من الأمور ، والتصريح به مع اندراجه فيما سبق قبله لأنه الذي يدور عليه الجزاء ، ففيه تأكيد للوعد والوعيد ، وتشديد لهما . وقوله تعالى : { واللهُ عليم بذاتِ الصُدور } : تذييل لِما قبله ، ومُقَرِّر له ، من شمول علمه تعالى لسِرِّهم وعلنهم ، أي : هو محيط بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس ، بحيث لا يُفارقها أصلاً ، فكيف يخفى عليه ما يُسرونه وما يُعلنونه ، فحق أن يُتقى ويُحذر . وإظهار الجلالة للإشعار بعلية الحكم ، وتأكيد استقلال الجملة . قيل : وتقدّم تقرير القدرة على تقرير العلم لأنّ دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات ، وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأوصاف ، وكل ما ذكره بعد قوله : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } في معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يُعصى الخالق ولا تُشكر نِعَمه . قال الطيبي : الفاء في " فمنكم " تفصيلية ، والآية كلها واردة لبيان عظمة الله في مُلكِه وملكوته ، وذلك أنه تعالى لمّا أثبت لذاته الأقدس التنزيه ، وأنّ كل شيء ينزهه ويُقدّسه عما لا يَليق بجلاله ، ثم خصّ أنه لوصفه بالمالكية على الإطلاق ، وكل كمال وجمال ونعمةٍ وإفضال منه ، وهو خالق كل مهتدٍ وضال ، ونظم دليل الآفاق مع ليل الأنفس ، وبيّن أنَّ إليه المصير ، ختم ذلك بإثبات العلم الشامل للكليات والجزئيات ، وكرره تكريراً ، وأكّده توكيداً ، وكأنَّ ذكر العلم في قوله : { والله بما تعملون بصير } استطراد لذكر الخلق وتفصيله ، ولإثبات القضاء والقدر ، ولمّا فرغ من بيان العظمة جاء بالتهديد والوعيد ، وقال : { ألم يأتكم … } الآية . هـ . الإشارة : هو الذي خلقكم ، فمنكم كافر بطريق الخصوص ، ومنكم مؤمن بها ، داخل فيها ، أي : فمنكم عام ومنكم خاص . قال القشيري : فمنكم كافرٌ ، أي : سائر للحق بالخلق ، ومنكم مؤمن ، أي : مُصدِّقٌ بظهور الحق في الخلق . ثم قسَّم الناسَ على ثلاثة : مَن لا يرى إلاّ الخلق ، وهم أهل الفرق ، ومَن لا يرى إلاّ الحق ، وهم أهل الجمع ، ومَن يرى الحق في الخلق ، والخلق في الحق ، لا يحجبه أحدُهما عن الآخر ، فهم أهل جمع الجمع . خَلَقَ سماواتِ الأرواح ليُعرف بها ، وأرض الأشباح ليُعبد بها ، وهو الواحد الأحد ، وصوَّركم فأحسن صُورَكم ، حيث جعلها جامعة للعوالم العلوية والسفلية لأنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته ، وذاته المقدسة جامعة لمظاهر الصفات والأسماء ، وتلك المظاهر كلها مجموعة في الصور الآدمية ، بخلاف سائر الكائنات ، فما في صورتها إلآَّ بعض الأسماء والصفات ، فتأمّله . وإليه المصير ، أي : وإلى ذاته ترجع جميع الصور والأشكال ، فما خرج شيء عن إحاطة الذات والصفات ، يعلم ما تُسرُّون من العقائد الصحيحة ، وما تُعلنون من العبادات الخالصة ، أو : ما تُسرُّون من الكشوفات الذوقية ، وما تُعلنون من العبودية الاختيارية ، هذا في خاصة أهل الظاهر وأهل الباطن ، أو : ما تُسرُّون من العقائد الفاسدة ، وما تُعلنون من الأعمال الخبيثة ، أو : ما تُسرُّون من الاتحاد أو الحلول ، وما تعلنون من العمل والمعلول ، وهذا في طالحي الفريقين . ثم هَدَّدَ مَن كفر بعد ظهور هذه الآيات العظيمة على عظمته تعالى ووحدانيته ، فقال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } .