Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 65, Ayat: 6-7)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جّل جلاله : { أَسْكِنُوهُنَّ } أي : المطلَقات { من حيثُ سَكَنتم } أي : مكاناً من حيث سكنتم ، فـ " من " للتبعيض ، أي : بعض مكانِ سكناكم . قال قتادة : لو لم يكن له إلاّ بيت واحد سكنها في بعض جوانبه . { من وُجْدِكُم } أي : وُسْعِكم ، أي : ما تطيقونه ، فهو عطف بيان ، أو بدل . قال أبو حيان : لا يُعرف عطف بيان يعاد فيه العامل ، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً . هـ . والوجد ، يجوز فيه الضم وهو أشهر والفتح والكسر . قال ابن جزي : فأمّا المطلقات غير المبتوتة فيجب لها على زوجها السُكُنَى والنفقة اتفاقاً ، وأمّا المبتوتة ففيها ثلاثة أقوال ، أحدها : أنها يجب لها السكنى دون الفقة ، وهو مذهب مالك والشافعي ، والثاني : أنها يجب لها السكنى والنفقة ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والثالث : أنها ليس لها سُكنى ولا نفقة ، وهو قول محمد ، وثابت البناني ، وأُبي بن كعب . فحُجة مالك : حديث " فاطمة بنت قيس ، وهو أنَّ زوجها طلَّقها البتَّةَ ، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لك عليه نفقة " ، فيوخذ منه : أنَّ لها السُكْنى ، وحُجة مَن أوجب لها السكنى والنفقة : قول عمر بن الخطاب : لا ندع آيةً من كتاب الله ربنا لقول امرأة ، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لها السُكْنَى والنفقة " ، وحجة مَن لم يجعل لها سكنى ولا نفقة : أنَّ في بعض الروايات عنها أي : فاطمة بنت قيس أنها قالت : " لم يجعل لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سُكْنَى " . { ولا تُضارُّوهُنَّ } في السُّكْنَى { لِتُضيِّقُوا عليهن } ويُلجأن إلى الخروج ، { وإِن كن } أي : المطلقات { أُولات حملٍ فأَنفِقوا عليهن حتى يضعنَ حَملَهن } فيخرجن من العِدّة . قال ابن جزي : اتفق العلماء على وجوب النفقة في العِدّة للمطلقة ، عملاً بالآية ، سواء كان الطلاق رجعيًّا أو بائناً . واتفقوا أنَّ للمطلقة غير الحامل النفقة والسُكْنى في العِدّة إذا كان الطلاق رجعيًّا ، فإن كان بائناً فاختلفوا في نفقتها حسبما ذكرناه ، وأمّا المتوفَّى عنها إذا كانت حاملاً فلا نفقة لها عند مالك والجمهور ، لأنهم رأوا أنَّ هذه الآية إنما هي في المطلقات . وقال قوم : لها النفقة في التركة . هـ . { فإنْ أرضعنَ لكم } هؤلاء المطلقات أولادَكم { فآتوهن أجورَهُنَّ } أي : أجرة الرضاع ، وهي النفقة وسائر المؤن المُفصل في كتب الفقه . { وأْتَمِرُوا بينكم بمعروفٍ } ، خطاب للرجال والنساء ، أي : يأمر كلُّ واحد منكم صاحبَه بخيرٍ من المسامحة والرفق والإحسان ، ولا يكن من الأب مماكسة ، ومن الأم معاسرة ، أو : تشاوروا بينكم على التراضي في الأجرة ، ومنه : { إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ } [ القصص : 20 ] . { وإِن تعاسَرتمْ } تضايقتم ، فلم ترضَ الأمّ بما ترضع به الأجنبية ، { فستُرضِعُ له أخرى } فستُوجد مرضعةٌ أخرى ، غير متعاسرة ، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة . والمعنى : إن تشططت الأمّ على الأب في أجرة الرضاع ، وطلبت منه كثيراً ، فللأب أن يسترضع لولده امرأة أخرى بما هو أرفق إلاّ ألاَّ يَقبل الولدُ غيرها ، فتُجبر على رضاعة بأجرة المثل . { ليُنفق ذو سَعَةٍ من سَعته ومَن قُدِرَ عليه رزقُه فليُنفق مما آتاه اللهُ } أي : لِينفق كُلٌّ واحد من المعسر والموسر بما يبلغه وسعه ، يعني : ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات ، { ومن قُدِرَ } أي : ضُيِّق { عليه رزقُه فلينفقْ } عليها { مما آتاه اللهُ } فيَفرض الحاكمُ عليه ما يطيقه ، { لا يُكلِّف اللهُ نفساً إِلاَّ ما آتاها } أعطاها من الرزق ، وفيه تطييب قلب المعسر ، وترغيب له في بذل مجهوده ، وقد أكد ذلك بالوعد ، حيث قال : { سيجعل اللهُ بعد عُسر يُسراً } أي : بعد ضيق في المعيشة سعة فيها ، فإنّ عادته تعالى أن يُعقب العسر باليسر ، كما قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } [ الشرح : 5 ] ، وكرره مرتين ، فلن يغلب عسر يسريْن . الإشارة : أسكِنوا نفوسَكم من حيث سكنتم بها قبل التوجه ، فينبغي للمريد أن يسايس نفسه شيئاً فشيئاً ، حتى يغيب عنها في شهود الحق ، من غير تشديدٍ في إخراجها عن طبعها بالكلية ، فإنها حينئذٍ تَملّ وتكِلّ ، فقد قيل : مَن سار إلى الله بموافقة طبعه كان الوصول إليه أقرب إليه من طبعه ، ومَن سار إلى الله بمخالفة طبعه كان الوصول إليه على قدر بُعده عن طبعه ، وفيه مشقة وحرج . ولذا قال تعالى : { ولا تُضاروهن لتُضيقوا عليهن } لئلا تمل وترجع من حيث جاءت ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لا يكن أحدكم كالمُنْبَت ، فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " ، نعم مخالفة طبعها في حب الظهور والجاه ، أو حب الدنيا ، واجب حتماً لا رخصة فيه ، وهذه سيرة أشياخنا رضي الله عنهم لا يُضيقون على المريد في جوع ولا عطش ، ولا كثرة رياضة ، وإنما يأمرونه بالخمول وتخريب الظاهر والزهد التام ، والورع الكامل ، فقد سمعت شيخ شيخنا مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول : سُدُّوا باب الطمع ، وافتحوا باب الورع ، واللهِ إن فعلتم ذلك حتى يستولي باطنكم على ظاهركم . هـ . أي : تستولي المعاني على الحس ، فيتحقق الشهود الكامل . وكان أيضاً يقول : نحن لسنا مع جوعٍ ولا مع شبعة ، نحن مع الله . هـ . أي : غائبون عن الجوع والشبع في ذكر الله وشهوده . وإن كن أُولات حَمل ، أي : ثقل من كثرة العلائق ، فأّنْفِقوا عليهن من الواردات الإلهية بصُحبة الرجال ، حتى تصادم تلك العلائق ، فتهدمها ، فتضع الحمل عنها ، فإن أرْضَعْن لكم ، بإن تهذبت ورجعت روحانيةً تأتيك بالعلوم التي يرتضع منها القلب باليقين والمعرفة ، فأتوهن أجورهن من البرّ بها والرفق ، وائتمروا بينكم بمعروف ، فتُؤمر أنت بالإحسان إليها ، وتُؤمر هي بالطاعة لك ، وإن تعاسرتم ، بأن ضعفت هِمتكم ، وقلّت أمدادكم ، بعدم صحبة أهل الإمداد ، فستُرضع له نفس أخرى ، أي : فليتخذ شيخاً كاملاً يُرضع له نفسه من ثدي أسرار العلوم والمعارف ، ولذلك قيل : مَن لا شيخ له فالشيطان شيخه ، لِيُنفق ذو سعة من سعته ، وهم الواصلون العارفون ، يُنفقون من سعة علومهم وأسرارهم ، على المريدين الذي استرضعوهم ، ومَن قُدر عليه رزقه من المريدين السائرين فليُنفق مما آتاه الله على مَن تعلقَ به من المريدين ، لا يُكلف الله نفساً إلاّ ما آتاها ، سيجعل الله بعد عُسرٍ وضيقِ في العلوم والأسرار يُسراً ، فتتسع عليه العلوم والأسرار بعد التمكين . والله تعالى أعلم . ثم هدّد مَن تعدّى الحدود ، فقال : { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } .