Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 66, Ayat: 1-2)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق " جلّ جلاله : { يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ } . في سبب نزول هذه السورة روايتان إحداهما : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوماً إلى بيت زوجه حفصة ، فوجدها ذهبت لزيارة أبيها ، فبعث إلى جاريته مارية ، فقال معها في البيت ، فجاءت حفصة ، فقالت : يا رسول الله أما كان في نسائك أهون مني ، أتفعل هذا في بيتي ، وعلى فراشي ؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام : " أيُرضيك أن أُحَرِّمها " ؟ فقالت : نعم ، فقال : " إني قد حَرّمتها " زاد ابن عباس : وقال مع ذلك : " والله لا أطؤها أبداً " ، ثم قال لها : " لاتُخبري بهذا أحداً ، وأُبشرك أنَّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي " ثم إنِّ حفصة قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة ، وأخبرتها ، وكانتا مصادقتين ، ولم ترَ في إفشائها حَرَجاً ، واستكتمتها ، فأوحى الله إلى نبيه بذلك . ورُوي أنه عليه السلام طلَّق حفصة ، واعتزل نساءه ، فمكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية ، فنزل جبريلُ ، وأمره برَدِّها ، وقال له : إنها صوّامة قوّامة ، وإنها من نسائك في الجنة ، فردَّها . والرواية الثانية : " أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش ، فتسقيه عسلاً ، فاتفقت عائشةُ وحفصة وسودة على أن تقول له مَن دنا منهن : أكلتَ مغافير ، وهو ضمغ العُرفُط ، وهو حلو كريه الريح ، ففعل ذلك ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " لا ، ولكني شربتُ عسلاً " ، فقُلن له : جَرَست نحلُه العُرفُط أي : أكلت ، ويقال للنحل : جراس ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا أشربه أبداً " ، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة ، فدخل بعد ذلك على زينب ، فقالت : ألاَ أسقيك من ذلك العسل ؟ فقال : " لا حاجة لي به " فنزلت الآية عتاباً له على أن ضيَّق على نفسه تحريم الجارية والعسل " والرواية الأولى أشهر عند المفسرين والثانية خرّجها البخاري في صحيحه . فإن قلتَ : لِمَ عاتبه اللهُ على هذا التحريم ، ولم يعاتب يعقوبَ على تحريم لحوم الإبل على ما ذكر في سورة آل عمران ؟ قلتُ : رتبة نبينا عليه الصلاة والسلام أرفع في المحبة والاعتناء ، فلم يرضَ منه أن يُضيّق على نفسه ، أرأيت إن كان لك ولد تُحبه ، ووسعتَ عليه ، ثم أراد أن يُضيّق على نفسه ، فإنك لا ترضى له ذلك ، محبةً فيه ، وشفقة عليه . وانظر تفسير ابن عرفة . قال ابن جزي : ولنتكلم على فقه التحريم : فأمّا تحريم الطعام والمال وسائر الاشياء ما عدا النساء فلا يلزم ، ولا شيء عليه فيه عند مالك ، وأوجب عليه أبو حنيفة كفارة اليمين ، وأمّا تحريم الأَمة فإن نوى به العتق لزم ، وإن لم ينو به ذلك لم يلزم ، وكان حكمه ما ذكرناه في الطعام ، وأمَا تحريم الزوجة ، فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة ، فقال أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم : إنما يلزم فيه كفارة يمين . هـ . قلت : وظاهره : سواء قال لها : أنتِ حرام ، أو حلف بالحرام واحداً أو ثلاثاً ، وسواء كان منجّزاً أومعلّقاً ، كما إذا قال : كل امرأة تزوجتُها عليكِ فهي حرام ، مثلاً ، فلا يلزم من ذلك شيء على قول هؤلاء السادات رضي الله عنهم . ثم قال : وقال مالك في المشهور عنه : هي ثلاث تطليقات في المدخول بها وينوي في غيرها ، وقال ابن الماجشون : هي ثلاث في الوجهين ، ورُوي عن مالك : أنها طلقة بائنة قلتُ : وبهذا جرى العمل اليوم وقيل : رجعية . هـ . { تبتغي مَرْضَاتَ أزواجِك } : حال ، أو استئناف مُبيّن للحال الداعي ، أي : تطلب رضا أزواجك بالتضييق على نفسك ، والمراد : رضا حفصة ، وهذا يُؤيد أنها نزلت في تحريم الجارية ، وأمّا تحريم العسل فلم يقصد به رضا أزواجه ، وإنما تركه لرائحته . { واللهُ غفور } أي : غفور لك ما كان تركه أولى من الصدع بالحق من غير مبالاة بأحدٍ ، ولا تُضيّق على نفسك ، { رحيم } بك ، حيث وسّع عليك ، ولم يرضَ لك أن تُضيق على نفسك . قال القشيري : ظاهرُ هذا الخطاب عتابٌ على كونه حَرَّمَ على نفسه ما أحلّه اللهُ لمراعاة قلب امرأته ، والإشارة فيه : وجوب تقديم حق الله على كل شيء في كل وقت . ثم قال تعالى ، عنايةً بأمره : { قد فرض اللهُ لكم تَحِلَّةَ أيمانكم } وتجاوزاً عنه بما كان تركه أولى . هـ . والحاصل : أنه تعالى غفر له ميله للسِّوى سهواً ، والسهو قهرية الحق تعالى ، قهر بها عبادَه ليتميّز ضعف العبودية من قوة الربوبية ، وهو ليس بنقصٍ في حق البشر ، لكنه لمّا كان في الغالب لا يحصل إلاَّ مع عدم العزم عُدَّ تفريطاً وهفوة ، كما قال تعالى في حق آدم : { فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] ، فالمغفرة في الحقيقة ، وطلب التوبة من السهو ، إنما هو لقلة العزم وعدم الحزم ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، ولا تصغ بأذنك إلى ما قاله الزمخشري ومَن تبعه من كون ما فعله عليه السلام زلة ، حيث حرّم ما أحلّ الله ، فإنه تجاسر على منصب النبوة ، وقلة أدب . وقوله تعالى : { ما أحلّ الله لك } زيادة " لك " تَرُدّ ما زعمه الزمخشري ، ولو كان كما قال لقال له : لِم تحرم ما أحلّ الله . ثم قال تعالى : { قد فَرَضَ اللهُ لكم تَحِلَّةَ أَيمانكم } أي : شرع لكم تحليلها ، وهو حل ما عقده بالكفَّارة ، أو بالاستثناء متصلاً ، والأول هو المراد هنا ، وهل كفَّر عليه الصلاة والسلام ؟ قال مقاتل : أعتق رقبةً ، وقال الحسن : لم يُكفِّر لأنه مغفور له . قال بعضهم : هذه التحلة إنما هي لليمين المقرونة بالتحريم ، وقال بعضهم : بل هي لنفس التحريم ، وبه تمسّك أبو حنيفة في تحريم الحلال ، فأوجب كفارةَ اليمين . { واللهُ مولاكم } أي : سيدكم ومتولي أمورَكم ، فلا يُحب ما ضيّق عليكم . قال في الحاشية الفاسية : ومَن تأمّل هذه السورة لاح له منزلةَ حبيب الله عند الله ، وحقق معنى قول عائشة : " يا رسول الله ما أرى ربك إلاّ يُسارع في هواك " الحديث متفق على صحته هـ { وهو العليمُ } بما يُصلحكم ، فيشرعه لكم ، { الحكيمُ } المتقن في أفعاله وأحكامه ، فلا يأمركم ولا ينهاكم ألاَّ بما تقتضيه الحكمة البالغة . الإشارة : هذا العتاب يتوجه لكل مَن سبقت له عند الله عناية وزلفى ، إذا ضَيّق على نفسه فيما أحلّ اللهُ له ، فلا يرضى منه ذلك ، محبةً فيه ، وقد صدر مني مثل هذا زمان الوباء ، فحلفت لبعض أزواجي : أني لا أتزوج عليها ، وسبب ذلك أنها كانت مصارِمة لي ، في غاية الغضب والقطيعة ، وقد كان غلب على ظني الموت ، لِما رأيتُ من الازدحام عليه ، فخفتُ أن نموت متقاطعَين ، فلمّا حلفتُ لها رأى بعض الفقراء من أصحابنا : أنه يقرأ عليّ أو معي : { يا أيها النبي لِمَ تُحرم … } الخ السورة ، ففهمت الإشارة على أنّ اليمين لا تلزم ، والله أعلم ، لأنّ بساط اليمين كان غلبة ظن الموت ، فلما تخلّف انحل اليمين ، كقضية الرجل الذي وجد الزحام على اللحم ، فحلف لا يشتري لحماً أبداً ، ثم وجد الفراغ ، فقال مالك : لا يلزمه شيء . هـ . وقال الورتجبي : أدب نبيه عليه الصلاة والسلام ألاَّ يستبد برأيه ، ويبتع ما يُوحى إليه . هـ . وجعل القشيري النبيَّ إشارة إلى القلب ، أي : يا أيها القلب المتوجِّه لِمَ تُحرم ما أحلّ الله من حلاوة الشهود ، تبتغي مرضاة نفسك وحظوظها ، فتتبع هواها ، وتترخّص في مباحات الشريعة ، وهي تحجب عن أسرار الحقيقة ، أو : لِمَ تُحرِّم ما أحلّ الله من الاستغراق في سُكر بحر الحقيقة ، تبتغي مرضاة بقاء نفسك ، والشعور بوجودها . وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " لي وقت لا يَسعني فيه غير ربي " وكان يقول لعائشة حين يغلب عليه السُكْر والاضمحلال في الحق : " كلميني حركيني يا حميراء " وكذلك القلب إذا غلب عليه الوجد ، وخاف من الاصطلام ، أو مِن مَحق البشرية ، يطلب مَن يبرد عليه مِن نفسه أو مِن غيره ، وقد سَمِعْتُ مِن شيخ شيخنا رضي الله عنه أنه قال : كان يغلب عَلَيَّ الوجد والسكر ، فكنت أذهبُ إلى مجالسة العوام ليبُرد عليّ الحال ، خوفاً من الاصطلام أو المحق ، وذلك بعد وفاة شيخه . وقوله تعالى : { والله غفور رحيم } أي : فلا يؤاخذ العبدَ بهذا الميل اليسير إلى الحس ، دواء لنفسه ، قد فرض اللهُ لكم تحلةَ أيمانكم ، أي : الميل اليسير إلى الرفق بالنفس لأنها مطية القلب ، بمجاهدتها يصل إلى كعبة الوصول ، وهي حضرة الرب . وبالله التوفيق . ثم ذكر النازلة ، فقالِ : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } .