Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 66, Ayat: 3-5)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { وإِذ أَسَرَّ } أي : واذكر أيها السامع حين أَسَرَّ { النبيُّ إِلى بعض أزواجه } يعني حفصة { حديثاً } حديث تحريم مارية ، أو العسل ، أو إمامة الشيخين ، { فلما نَبَّأَتْ به } أي : أخبرت حفصةُ عائشةَ بالحديث وأفشته ، فحذف المفعول ، وهو عائشة ، { وأظْهَرَه اللهُ عليه } أي : أطلع اللهُ تعالى نبيَّه عليه الصلاة والسلام على إفشاء حفصة على لسان جبريل عليه السلام ، أو : أظهر الله عليه الحديث ، من الظهور ، { عَرَّفَ بعضَه } أي : عرَّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم حفصةَ بعض الحديث الذي أفشته ، قيل : هو حديث الإمامة ، رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال لها : " ألم أقل لك اكتمي عليّ " ؟ قالت : " والذي بعثك بالحق ما ملكتُ نفسي " فرحاً بالكرامة التي خَصَّ اللهُ تعالى بها أباها . { وأَعْرَضَ عن بعضٍ } فلم يُخبرها تكرُّماً . قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام ، وقال الحسن : ما استقصى كريم قط . وقرأ الكسائي : " عَرَف " بالتخفيف ، أي : جازى عليه ، من قولك للمسيء : لأعْرِفَنَّ لك ما فعلت ، أي : لأجازينَّك عليه ، فاجازاها عليه السلام بأن طلَّقها ، وآلى من نسائه شهراً ، وقعد في مشربة مارية حتى نزلت آية التخيير ، وقيل : هَمَّ بطلاقها ، فقال له جبريل : لا تُطلِّقها ، فإنها صوّامة قوّامة . هـ . قيل : المعرّف : حديث الإمامة ، والمعرَض عنه : حديث مارية . { فلما نَبَّأها به } أي : أخبر صلى الله عليه وسلم حفصةَ بما عرفه من الحديث ، قالت حفصة للنبي عليه السلام : { مَن أنبأكَ هذا قال نبأنيَ العليمُ الخبيرُ } الذي لا تخفى عليه خافية . { إِن تتوبا إِلى الله } ، الخطاب لحفصة وعائشة ، على الالتفات للمبالغة في العتاب ، { فقد صَغَتْ قُلوبُكما } مالت عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مِن حُب ما يُحبه ، وكراهة ما يكرهه ، وكان عليه الصلاة والسلام شقَّ عليه تحريم مارية وكَرِهَه ، وهما فرحا بذلك . وجواب الشرط : محذوف ، أي : إن تتوبا إلى الله فهو الواجب ، فقد زالت قلوبكما عن الحق ، أو : تُقبلْ توبتكما ، أو هو : " فقد صغت " أي : إن تتوبا فقد زاغب قلوبكما فاستوجبتما التوبة ، أو : فقد كان منكما ما يقضي أن يُتاب منه . قال ابن عطية : وهذا الجواب للشرط ، وهو متقدم في المعنى ، وإنما نزلت جواباً في اللفظ . هـ . وقُرىء " زاغت " من الزيغ . { وإِن تَظَاهرا عليه } أي : تتعاونا عليه بما يسوؤه ، من الإفراط في الغيرة ، وإفشاء سرّه ، والفرح بتحريم مارية ، { فإِنَّ اللهَ هو مولاه } وليُّه وناصره ، وزيادة " هو " إيذان : أنّه يتولّى ذلك بذاته بلا واسطة ، { وجبريلُ } أيضاً وليّه ، الذي هو رئيس الملائكة المقرّبين ، { وصالحُ المؤمنين } أي : ومَن صلح مِن المؤمنين ، أي : كل مَن آمن وعمل صالحاً ، وقيل : مَن برىء مِن النفاق ، وقيل : الصحابة جملة ، وقال ابن عباس : أبو بكر وعمر ، ورُوي مرفوعاً ، وبه قال عكرمة ومقاتل ، وهو اللائق لتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام ، فإنه جمع بين التظاهر المعنوي والتظاهر الحسي ، فجبريل ظاهَره عليه السلام بالتأييدات الإلهية ، وهما وزيراه وظهيراه في أمور الرسالة ، وتمشية أحكامها الظاهرة ، ولأنَّ تظاهرهما له صلى الله عليه وسلم أشد تأثيراً في قلوب بنيتْهما ، وتوهيناً في حقهما ، فكانا حقيقا بالذكر ، بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين ، كما هو المشهور . قاله أبو السعود . { والملائكةُ } مع تكاثر عددهم وامتلاء السموات من جموعهم { بعد ذلك } أي : بعد نصرةِ الله عزّ وجل ، وناموسه الأعظم ، وصالح المؤمنين ، { ظهيراً } أي : فوْج ظهير مُعاون له ، كأنهم يد واحدة على مَن يعاديه ، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على مَنْ هؤلاء ظُهراؤه ؟ ولمّا كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله ، قال : { بعد ذلك } تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم . { عسى ربُّه إِن طَلَّقكُنَّ أن يُبْدِلَه } بالتخفيف والتشديد للتكثير ، أي : يعطيه اللهُ تعالى بدلكن { أزواجاً خيراً منكن } ، قال النسفي : فإن قلتَ : كيف تكون المبدّلات خيراً منهنَ ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين ؟ قلتُ : إذا طلّقهنّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لإيذائهنّ إياه لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيراً منهن . هـ . وأجاب أبو السعود : بأنّ ما عُلّق بما لم يقع لا يجب وقوعه . هـ . وليس فيه ما يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يُطلِّق حفصة ، فإنّ تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة . ثم وصف المبدَلات بقوله : { مُسلماتٍ مؤمناتٍ } أي : مُقرّات مخلصات ، أو : منقادات مصدّقات ، { قانتاتٍ } طائعات ، فالقنوت : هو القيام بطاعة الله ، وطاعة الله في طاعة رسوله ، { تائباتٍ } من الذنوب { عابداتٍ } متعبدات متذللات ، { سائحاتٍ } صائمات ، وقيل للصائم : سائح لأنَّ السائح لا زاد معه ، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يُطعمه ، فشبّه به الصائم في إمساكه إلى وقت إفطاره ، أو : مهاجرات . قال زيد بن أسلم : لم يكن في هذه الأمة سياحة إلاَّ الهجرة ، { ثيباتٍ وأبكاراً } ، إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار ، دون سائر الصفات لأنهما صفتان متباينتان ، وعَطْف الأبكار على الثيبات من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، كقوله تعالى : { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لاَ كَبِيرَةً … } [ التوبة : 121 ] . والله تعالى أعلم . الإشارة : توجه العتاب له صلى الله عليه وسلم مرتين في تحريم الجارية ، وفي إخفائه لذلك ، إذ فيه بعض مراقبة الخلق ، والعارف لا يُراقب إلاّ الحق ، فهذا قريب من قوله تعالى : { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللهُ أّحَقُّ أَن تَخْشَٰهُ } [ الأحزاب : 37 ] ، ففيه من التصوُّف : أنَّ العارف يكون الناس عنده كالموتى ، أو كالهباء في الهواء ، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون الناس عنده كالأباعر " إذا ليس بيدهم نفع ولا ضر . وإشارة الآية على ما قال القشيري : وإذ أَسَرَّ القلبُ إلى بعض أزواجه ، وهي النفس والهوى ، حديث المخالفة ، على طريق " شاوروهنّ وخالِفوهنّ " فلما نبأت النفسُ الهوَى لتفعلا ذلك ، وأظهره الله عليه بوحي الإلهام ، عَرَّف بعضَه وأعرض عن بعض ، أي : عاتبهما على البعض ، وسامحهما في الآخر ، فلما نبأ القلبُ النفسَ بما أفشت للهوى ، قالت : مَن أنبأك هذا … الخ ، إن تتوبا إلى الله ، وتنقادا لحكمه فقد وقع منكما ما يوجب التوبة ، وإن تظاهرا على القلب بتزيين المخالفة وتتبع الحظوظ والشهوات ، فإنَّ الله هو مولاه ، ينصره بالأجناد السماوية والأرضية ، من التأييدات والواردات ، عسى ربه إن طلقكن وغاب عنكن أن يُبدله أخلاقاً طيبة ، ونفوساً مطمئنة ، مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ ، عابداتٍ سائحاتٍ بأفكارها في ميادين الغيوب ، وبحار التوحيد ، ثيبات ، أي : تأتي بعلوم الرسميات وأبكار الحقائق . ثم أمر الحقُّ تعالى بإرشاد النساء وتأديبهن ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } .