Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 68, Ayat: 5-16)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { فسَتُبْصِرُ } يا محمد { ويُبصرون } أي : كفارُ قريش عاقبةَ أمرك وأمرهم ، أو : مَن هو المجنون منكم . قال ابن عباس رضي الله عنه : فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتبيّن الحق من الباطل . هـ . وقيل : في الدنيا بظهور عاقبة أمرك بظهور الإسلام ، واستيلائك عليهم بالقتل والنهب ، ويبصرونك مُهاباً معظّماً في قلوب العالمين ، وكونهم أذلةً صاغرين . قال مقاتل : هذا وعيد بعذاب يوم بدر . والباء في قوله : { بأيِّكم المفتونُ } قيل : زائدة ، أي : تُبصرون أيكم المفتون ، أي : المجنون ، وقيل : غير زائدة ، أي : بأيكم الفتنة ، فالمفتون مصدر ، كقولهم : ما لك معقول ، أي : عقل ، وقيل : الباء بمعنى " في " ، أي : في أي فريق منكم المفتون ، هل في فريق المؤمنين أم المشركين ؟ والآية تعريض بأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، وأضرابهما ، وتهديد ، كقوله تعالى : { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ } [ القمر : 26 ] . { إِنَّ ربك هو أعلمُ بمَن ضلَّ عن سبيله } تعليل لمضمون ما قبله ، من ظهور جنونهم ، بحيث لا يخفى على أحد ، وتأكيد لِما فيه من الوعد والوعيد ، أي : هو أعلم بمَن ضلّ عن طريقه الموصلة إلى سعادة الدارين ، وبمن هو في تيه الضلال ، متوجهاً إلى ما يسوقه إلى الشقاوة الأبدية ، وهذا هو المجنون الذي لا يُفرّق بين الضرر والنفع ، بل يحسب الضررَ نفعاً فيؤثره ، والنفعَ ضرراً فيهجره ، { وهو أعلمُ بالمهتدين } إلى سبيله ، الفائزين بكل مطلوب ، الناجين من كل مرهوب ، وهم العقلاء المراجيح ، فيجزي كُلاًّ من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب . وإعادة { هو أعلم } لزيادة التقرير . وإذا تقرّر أنك على الهدى ، ومُكَذَبوك على الضلال { فلا تُطع المكذِّبين } ، فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : دُم على ما أنت عليه ، من عدم طاعتهم ، وتَصَلّبْ في ذلك . وهذا تهييج للتصميم على عصيانهم ، وقد أرادوه على أن يعبدوا الله مدة ، ويعبد آلهتهم مدة ، ويكفُّوا عنه غوائلهم ، فنهاه عن ذلك ، أو : نُهي عن مداهنتهم ومداراتهم ، بإظهار خلاف ما في ضميره صلى الله عليه وسلم استجلاباً لقلوبهم . { وَدُّوا لو تُدْهِنُ } لو تلين لهم { فيُدْهِنُون } فيلينون لك ، ولم ينصب بإضمار " أن " مع أنه جواب التمني لأنه عدل به إلى طريق آخر ، وهو أن جعله خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم مدهنون ، أي : فهم الآن يُدهنون لطمعهم في إدهانك ، فليس داخلاً في حيّز تمنيهم بل هو حاصل لهم ، وفي بعض المصاحف : " فيدهنوا " على أنه جواب التمني . { ولا تُطعْ كلَّ حلاّفٍ } كثير الحلف في الحق والباطل ، وكفى به زجراً لمَن يُكثر الحلف ، { مَهِينٍ } حقير في الرأي والتدبير ، من المهانة ، وهي القلة والحقارة ، أو : كذَّاب لأنه صغير عند الناس ، { هَمَّازٍ } عيّابٍ طعَّان مغتاب { مشَّاء بنميم } نقّال للحديث من قوم إلى قوم ، على وجه السِّعاية والفساد بينهم ، فالنميم والنميمة : السعاية في إفساد ذات البيْن ، { مناعٍ للخير } بخيل ، والخير : المال ، أو : منّاع أهلَه من الخير ، وهو الإسلام ، والمراد : الوليد بن المغيرة ، عند الجمهور ، وكان يقول لبنيه العشرة : مَن أسلم منكم منعته رفدي . هـ { مُعْتَدٍ } مجاوز في الظلم حدّه ، { أثيمٍ } كثير الإثم ، { عُتُلٍّ } غليظ جافٍ ، مِن عتله : إذا قاده بعنف وغلظةٍ ، { بعد ذلك } بعدما عدّ له من المثالب { زنيمٍ } دَعِيّ ، أي : ولد زنا ، وكان الوليد دَعِياً في قريش ، ليس من سِنْخهم ، ادّعاه أبوه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من مولده ، وقيل : بغَت أمه ولم يعرف حتى فضحته الآية : والنطفة إذا خبثت خبث الناشىء عنها . رُوي : أنه دخل على أمه ، وقال لها : إنَّ محمداً وصفني بشعرة أوصاف ، وجدت تسعة فِيّ ، فأما الزنيم فلا علم لي به ، فإن أخبرتني بحقيقته ، وإلاّ ضربت عنقك ، فقالت : إنَّ أباك عنّين ، وخفتُ أن يموت ، فيصل المال إلى غير ولده ، فدعوت راعياً ، فأنت من ذلك الراعي . هـ . وقيل : هو الأخنس بن شريق ، أصله من ثقيف ، وعِدادُه في بني زهرة . { أن كان ذا مالٍ وبنينَ } : متعلق بقوله : { لا تُطع } أي : لاتُطع مَن هذه مثالِبه لأن كان صاحب مال وبنينَ مستظهراً بهم ، فإنه حظه من الدنيا ، وقيل : متعلق بما بعده ، أي : لأن كان ذا مال وبنين كذّب بآياتنا ، يدل عليه قوله تعالى : { إذا تُتلى عليه آياتُنا } أي : القرآن { قال أساطيرُ الأولين } أي : أكاذيب المتقدمين ، ولا يعمل فيه " قال " لأنّ ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله . ومَن قرأ بكسر " إن " فشرط حُذف جوابه ، أي : إن كان ذا مال فلا تُطعه ، والمعنى : لا تُطع كل حلاّف شارطاً يَسَارَه . قيل : لمّا عاب الوليدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كاذباً بأمر واحد ، وهو الجنون ، سمّاه اللهُ تعالى صادقاً بعشرة أسماء ، فإذا كان مِن عدله أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر ، كان من فضله أن يجزي المُصلِّي عليه أو المادح له بعشر فأكثر . { سَنَسِمُه على الخرطوم } سنعلِّمه على أنفه بالكي بالنار إهانةً له ، وتخصيص الأنف بالذكر لأنَّ الوسم عليه أبشع ، وقيل : خطم بالسيف يوم بدر ، فبقيت سمة على خرطومه ، وفيه نظر إذا قلنا هو الوليد ، فإنه مات قبل بدر ، لأنه من المستنصرين الخمسة ، وقد ماتوا كلهم قبل وقعة بدر ، وقيل : سنعلمه يوم القيامة بعلامة يُشوه بها من بين سائر الكفرة . الإشارة : فستُبصر أيها العارف ، والمتوجّه إلى الله ، ويُبصر أهل الانتقاد من أهل الغفلة ، أيكم المفتون ، هل أنتم حين اجتمعت قلوبكم بالله ، وجعلتم الهموم هَمًّا واحداً ، فكفاكم الله همّ دنياكم ، أو : هُم الذين تفرّقت قلوبهم ، وتشعّبت همومهم ، حتى ماتوا في أودية الفتن ، فلم يُبالِ الله بهم في أيّ أودية الدنيا هلكوا ، كما في الأثر . إن ربك هو أعلم بمَن ضَلّ عن طريقه الموصلة إليه ، وهو أعلم بالمهتدين إليها ، السائرين فيها ، حتى وصلوا إلى حضرة قدسه ، فلا تُطع أيها المتوجّه المكذّبين لهذه الطريق ، ودُّوا لو تلينون إليهم ، وتشاركونهم فيما هم فيه من الحظوظ ، فيميلون إليكم ، طمعاً فيكم أن يصرفوكم عن طريق الجد والاجتهاد ، ولا تُطع كل حلاّف مهين ، قال القشيري : مّهين : هو الذي سقط من عيننا ، فأقمناه بالبُعد عنا ، همّاز مشاء بنميم ، مُعذَّب بالوقيعة في أوليائنا . هـ . قال بعضهم : بُحث عن النمَّام فلم يوجد إلا ابن الزنا ، واستدل بالآية في قوله : { بعد ذلك زنيم } . وقوله تعالى : { منَّاعٍ للخير } ، وضده من أخلاق الصوفية ، وهو أن يكون وصّالاً للخير لعباد الله ، حسًّا ومعنىً ، { معتد أثيم } وضده : كثير الإحسان والطاعة ، { عُتل } وضده : سهل لين ، { بعد ذلك زنيم } أي : لقيط ، لا أب له ، وكل مَن لا شيخ له يصلح للتربية فهو لقيط ، لا أب له ، فلا يصلح للاقتداء كما لا يؤم الناسَ ابنُ الزنا ، وقوله تعالى : { أن كان ذا مال وبنين إِذا تُتلى عليه آياتنا قال … } الخ . أي : إنما حمله على التكذيب طغيانه بالمال ، وهذه عادته تعالى : أنَّ المترفين لا ينالون من طريق السابقين شيئاً إلاَّ النادر . والله تعالى أعلم . ثم ضرب مثلاً لقريش ، وقيل : لمَن كان ذا مال وبنين فلم ينفعوه ، فدمّر الله عليهم كما فعل بأصحاب الجنة ، فقال : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ } .