Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 68, Ayat: 17-33)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّا بلوناهم } أهل مكة ، أي : امتحنّاهم بالقحط والجوع ، حتى أكلوا الجِيفَ الرِّممَ ، بدعاء النبي صلى الله عليه سلم حيث قال : " اللهم اشدُدْ وطأتَك على مُضَرَ ، واجعلها عليهم سِنينَ كسِني يوسفَ " { كما بلونا أصحابَ الجنةِ } ، وهم قوم من أهل الصلاة ، قيل : كانوا مؤمنين ، أهل كتاب ، بعد رفع عيسى عليه السلام وكانوا بـ " ضرْوان " على فراسخ من صنعاء اليمن . قال ابن جزي : كانوا من بني إسرائيل . هـ . والجنة ، قال ابن عباس : هو بستان ، يقال له : الضّروان ، دون صنعاء بفرسخين ، يطؤه أهل الطريق ، كان غَرَسه رجل من أهل الصلاح ، فورثه ثلاثة بنين ، فإذا أصرموه كان للمساكين كل ما تعدّاه المنجل والقِطاف ، فإذا طرح من فوق النخل إلى البساط ، فكل شيء سقط عن البساط فهو للمساكين ، فكان أبوهم يتصدّق منها على المساكين ، فكان يعيش من ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين ، وفي رواية : كان يأخذ قوت سنة ، ويتصدّق بالباقي ، وكان ينادي على الفقراء وقت الصرام ، فلما مات أبوهم قالوا : لقد قلَّ المال ، وكثر العيال ، فتحالفوا بينهم ليغدوا غدوة قبل خروج الناس ، ويصرمونه ، ولا يشعر المساكين ، وهو قوله تعالى : { إِذْ أقسَموا } حلفوا { لَيَصْرِمُنَّهَا مصبحين } ليقطفنّها داخلين في الصباح ، قبل انتشار الفقراء ، { ولا يستثنون } لا يقولون إن شاء الله ، وسمي استثناء ، وإن كان شرطاً صورةً لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء لأنّ قولك : لأخرجنّ إن شاء الله ، و : لا أخرج إلاّ أن يشاء الله ، واحدٌ ، أو : لا يستثنون حصة المساكين ، كما كان يفعل أبوهم . { فطاف عليها } أي : على الجنة { طائف من ربك } أي : نزل عليها بلاء من جهته تعالى ، قيل : أنزل الله عليها ناراً فأحرقتها ، وقيل : طاف بها جبريل ، لأنه الموكل بالخسف ، فاقتلعها ، وطاف بها حول البيت ، ثم وضعها بالطائف ، وليس بمكة وما قرب منها بستان غيرها ، وهي مدينة الطائف . انظر اللباب . { وهم نائمون } أي : في حال نومهم ، أو : غافلون عما جرت به المقادير ، { فأصبحتْ } أي : فصارت الجنة { كالصَّرِيم } كالبستان الذي صرمت ثماره ، بحيث لم يبقَ فيها شيء ، وقيل : كالليل المُظلم ، احترقت فاسودّت ، أو : كالصبح ، أي : صارت أرضاً بيضاء بلا شجر . وفي القاموس : الصريم : الأرض المحصود زرعها ، والصبح والليل . هـ . { فَتَنَادَوا } أي : نادى بعضُهم بعضاً { مصبحين } داخلين في الصباح : { أَنِ اغْدوا } أي : اخرجوا غدوه { على حَرْثِكم } بستانكم وضيعتكم ، وتعدية الغدو بـ " على " لتضمنه معنى الإقبال والاستيلاء ، { إِن كنتم صارمين } قاصدين الصرم . { فانطلقوا وهم يتخافتون } يتساررون فيما بينهم بطريق المخافتة ، لئلا يسمع المساكين { أن لا يدخلنَّها } أي : الجنة ، و " أن " مفسرة ، أي : قائلين في تلك المخافتة : لايدخلنها { اليومَ عليكم مسكين } ، والنهي عن دخول المساكين نهي عن التمكين على وجه المبالغة ، أي : لا تُمكنوهم من الدخول . { وغَدَوا على حَرْدٍ } على جِدٍّ في المنع { قادرين } عند أنفسهم على المنع ، كذا عن نفطوية ، من قولهم : حردت الإبل إذا قلَّت ألبانها فمنعتها ، و " حاردت السنة " إذا كانت شهباء ، من قلة مطرها ، أو : الحرد : القصد والسرعة ، يقال : حَرَدَ حَرْده ، أي : قصد قصده ، قال الشاعر : @ أقْبَـلَ سَيْـلٌ جـاء من أَمْـرِ الله يَـحْـرِدُ حَـرْدَ الجَـنــةِ المُـغِلَّـهْ @@ أي : يقْصد قصدها ، أي : وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين على صِرامها عند أنفسهم ، وقيل : معنى الحرد : الغضب ، يقال : حَرِدَ الرجل حَرْداً : غضب ، أي : غدوا على غضبٍ على المسكين قادرين على المنع ، أو على صِرامها في زعمهم ، وقيل : الحرد : اسم للجنة ، أي : غدوا على تلك الجنة قادرين على صِرامها عند أنفسهم . { فلما رَأَوها } أي : جنتهم محترقة { قالوا إِنَّا لضالون } أي : ضللنا جنتنا ، وما هي بها ، لِما رأوا من هلاكها ، فلما تأمّلوا وعرفوا أنها هي ، قالوا : { بل نحن محرومون } حُرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا ، { قال أوسطُهم } أي : أعدلُهم وخيرُهم رأياً ، أو : أكبرهم سنًّا : { ألم أقل لكم لولا تُسبِّحون } ؟ تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نياتكم ، وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك : اذكروا الله ، وتوبوا إليه من هذه الجريمة الخبيثة من فوركم ، وسارِعوا إلى حَسْم شرها قبل حلول النقمة ، فَعَصوه . وقيل : المراد بالتسبيح : الاستثناء لأنه تعظيم لله تعالى في الجملة لأنَّ الاستثناء تفويض إليه ، والتسبيح تنزيه ، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم ، والأول أنسب بقوله : { قالوا سبحان ربنا إِنَّا كنا ظالمين } فيما عزمنا عليه من المنع ، أو : في عدم الاستثناء ، فتكلّموا بعد نزول العذاب بما كان يدعوهم إلى التكلُّم به قبل نزوله . { فأقبل بعضُهم على بعض يتلاومون } أي : يلوم بعضُهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين ، ويُحيل كلُّ واحد منهم اللائمة على الآخر ، ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله : { قالوا يا ويلنا إِنَّا كنا ظالمين } متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء حقهم ، وتَرْكِ الاستثناء ، { عسى ربُّنا أن يُبْدلنا خيراً منها } أي : يعطينا خيراً من جنتنا ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة ، { إِنَّا إِلى ربنا راغبون } طالبون منه الخير ، راجون العفو منه . وعن مجاهد : ثابوا فأُبدلوا خيراً منها ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنهم أخلصوا ، فأبدلهم الله جنة تُسمى الحيوان ، فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً ، وعن أبي خالد اليماني أنه رآها ، ورأى كل عنقود منها كالرجُل الأسود القائم ، وقد تقدّم أنهم مؤمنون ، إمّا من بني إسرائيل أو غيرهم ، فلا معنى لمَن توقف في قولهم : { إِنَّا إِلى ربنا راغبون } هل يكون إسلاماً أم لا ؟ نعم ، قد قيل : إنهم كانوا كفاراً ، فيحتمل أن يكون قولهم هذا إسلاماً ، أو يكون على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم شدة . قال تعالى : { كذلك العذابُ } أي : مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه في حق أصحاب الجنة هو عذاب الدنيا لمَن تخالف أمرنا ، ولم يشكر نِعمنا ، { ولَعذابُ الآخرة أكبرُ } أعظم منه وأشد ، { لو كانوا يعلمون } أنه أكبر لا حترزوا عما يؤديهم إليه . قال الطيبي : قال الإمام أي الفخر ـ : المقصود من القصة أنه تعالى قال : { أن كان ذا مال وبنين إِذا تُتلى عليه آياتنا قال … } الخ أي : لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله إنما أعطاه ذلك للابتلاء ، فإذا صرفه إلى الكفر دمّر الله عليه لأنّ أصحاب الجنة لَمَّا أَتوا بهذا القدر اليسير من المعصية ، دمَّر الله على جنتهم ، فكيف حال مَن عاند الرسولَ ، وأصرّ على الكفر والمعصية ؟ أو : لأنَّ أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة ، ويمنعوا الفقراء منها ، فقلب الله عليهم القضية ، فكذا أهل ممكة ، حَردُوا إلى بدر أرادوا الكيد بمحمد وأصحابه صلوات الله عليه فأخلف الله ظنّهم ، فقُتلوا وأُسروا . هـ . الإشارة : مَن كان يفعل الإحسان ، ويُوسع في العطاء ، ثم قبض يده ، فإنَّ الله يقبض فيضه عنه ، كما قبض هو إحسانه عن عباده ، فما دام يُوسّع فإنَّ الله يُوسّع عليه ، فإذا قبض قبض الله عنه ، { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } [ الأنعام : 139 ] ، وكذلك مَن خالف عادة أسلافه في العطاء وشدّ يده فإنَّ الله يُخالف عنه ما كان يفعل مع أسلافه ، من فَيْض الأرزاق الحسية أو المعنوية ، فإن تاب ورجع إلى فعل ما كان عليه أسلافه أعاد الله عليه إحسانه ، كما فعل بأصحاب الجنة حين تابوا ، وهذا صريح الآية ، وتَصْدق أيضاً بمَن كان يُنفق من سعة علومه ومواهبه ، ثم قبض ذلك من غير عذر ، فإنَّ الله تعالى يقبض عنه زيادة المواهب ، وربما يطوف على باطنه طائف من الله ، فيُصبح خالياً من ثمار المواهب ، حتى يتوب ويرجع إلى ما كان عليه ، وبالله التوفيق . ثم شفع بضد ذلك ، فقال : { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ } .