Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 11-18)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد خلقناكم } أي : خلقنا أباكم آدم طينًا غير مصور ، { ثم صوّرناكم } أي : صوّرنا خلقة أبيكم آدم . نزَّل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره لأنه المادة الأصلية ، أي : ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا أباكم آدم ، ثم صورناه ، { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } تعظيمًا له ، حيث وجد فيه ما لم يوجد فيهم ، واختبارًا له ليظهر من يخضع ممن لم يخضع ، { فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين } لآدم . { قال } له الحق تبارك وتعالى : { ما منعك ألا تسجد } أي : تسجد ، فلا : زائدة ، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه ، ومنبهة على أن الموبَّخ عليه ترك السجود ، وقيل : الممنوع من الشيء كالمضطر إلى خلافه ، فكأنه قال : ما اضطرك إلى ترك السجود { إذ أمرتك } . وفيه دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور ، فأجاب بقوله : { قال أنا خيرٌ منه } ، أي : المانع لي من السجود هو كوني أنا خير منه ، ولا يحسُنُ للفاضل أن يسجد للمفضول ، فكيف يحسُن أن يؤمر به ، فإبليس هو الذي سنَّ التكبر ، وقال بالتحسين والتقبيح العقليين أولاً ، وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود . ثم بيَّن وجه الأفضلية ، فقال : { خلقتني من نار وخلقته من طين } ، فاعتقد أن النار خيرٌ من الطين ، وقد غلط في ذلك ، فإن الأفضلية إنما تظهر باعتبار النتائج والثمرات ، لا باعتبار العنصر والمادة فقط ، ولا شك أن الطين ينشأ منه ما لا يحصى من الخيرات كالثمار والحبوب وأنواع الفواكه . قال البيضاوي : رأى الفضل كله باعتبار العنصر ، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل ، كما أشار إليه بقوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ صَ : 75 ] أي : بغير واسطة ، وباعتبار الصورة ، كما نبه عليه بقوله تعالى : { ونفخت فيه من روحي } وباعتبار الغاية ، وهو ملاكه ، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما تبين لهم أنه أعلم منهم ، وأنه له خواصًا ليست لغيره . هـ . ولما تبين عناده قال له تعالى : { فاهبط منها } أي : من السماء أو من الجنة ، { فما يكونُ لك } أي : فما يصح لك { أن تتكبَّر فيها } وتعصى فإنها موطن الخاشع المطيع ، وفيه دليل على أن الكبر لا يليق بأهل الجنة ، فإنه تعالى إنما أنزله وأهبطه لتكبره لا لمجرد عصيانه ، { فاخرج إنك من الصاغرين } أي : ممن أهانه الله لتكبره . قال صلى الله عليه وسلم : " مَن تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ الله ، ومَن تَكَبَّر وَضَعَه الله " . ولما تحقق إبليس أنه مطرود ، سأل الإمهال فقال : { أنظرني } أي : أخرني ، { إلى يوم يُبعثون } فلا تمتني ، ولا تعجل عقوبتي ، { قال إنك من المنظرين } يقتضي أنه أجابه إلى ما سأل ، لكنه محمول على ما في الآية الأخرى : { إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [ الحِجر : 38 ] وهو نفخ الصور النخة الأولى ، { قال فبِمَا أغويتني } أي : بعد أن أمهلتني لأجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني ، بسبب إغوائك إياي ، والله { لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم } ، وهو الطريق الذي يوصلهم إليك ، فأقعد فيه ، وأردهم عنه ، { ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } فآتيهم من الجهات الأربع ، وذلك عبارة عن تسلطه على بني آدم كيفما أمكنه . قال ابن عباس : { من بين أيديهم } : الدنيا يُزيّنها لهم ، { ومن خلفهم } : الآخرة يُنسيها لهم ، { وعن أيمانهم } : الحسنات يُثبطهم عنها ، { وعن شمائلهم } : السيئات يُزينها في أعينهم . هـ . ولم يجعل له سبيلاً من فوقهم ، ولا من تحت أرجلهم لأن الرحمة تنزل من أعلى ، فلم يحل بينهم وبينها ، والإتيان من تحت موحش ، وأيضًا : السفليات محل للتواضع والخشوع ، فتكثر فيه الأنوار فيحترق بها . وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : لإنَّ فوق : التوحيد ، وتحت : الإسلام ، ولا يمكن أن يأتي من توحيد ولا إسلام . ثم قال تعالى : { ولا تجدُ أكثرَهم شاكرين } مطيعين ، قال بعض الصوفية : لو كان ثم مقام أعظم من الشكر لذكره إبليس فالشكر أعظم المقامات ، وهو الطريق المستقيم الذي قعد عليه إبليس ، والشكر : هو ألا يُعصى الله بنعمه ، أو : صرف الجوارح كلها في طاعة الله ، أو رؤية المنعم في النعمة ، وإنما قال إبليس ذلك ظنًا لقوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [ سَبَأ : 20 ] ، وسيأتي في الإشارة حقيقته . { قال } تعالى لإبليس : { اخرج منها } من السماء أو الجنة ، { مذءومًا } أي : مذمومًا ، من ذامه ، أي : ذمه ، { مدحورًا } أي : مطرودًا . والله { لمن تَبِعَكَ منهم } في الكفر { لأملانَّ جهنم منكم أجمعين } أي : منك وممن تبعك . تنبيه : ذكر الفخر الرازي ، في تفسيره ، عن الشهرستاني أن إبليس جرت بينه وبين الملائكة مناظرة بعد الأمر بالسجود لآدم ، فقال لهم : إني أسلم أن الله خالقي وموجدي ، وهو موجد الخلق ، ولكن لي على حكمته أسئلة : الأول : ما الحكمة في إيجاد خلقه ، لا سيما وكان عالمًا بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام ؟ الثاني : ما الفائدة في التكليف ، مع أنه لا يعود عليه نفع ولا ضرر ، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غيره واسطة التكليف ؟ الثالث : هب أنه كلفني بطاعته ومعرفته ، فلماذا كلفني بالسجود لآدم ؟ الرابع : لما عصيته فلمَ لعنني وأوجب عقابي ، مع أنه لا فائدة له ولا لغيره منه ، وفيه أعظم الضرر ؟ الخامس : لما فعل ذلك فلِمَ مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوسة آدم ؟ السادس : ثم لما فعل ذلك ، فلم سلطني على أولاده . ومكنني من إغوائهم وإظلالهم ؟ السابع : ثم لما استمهلته بالمدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ، ومعلوم أن العالم لو كان خاليًا من الشر لكان ذلك خيرًا . هـ . قال شارح الأناجيل : فأوحى الله إليه من سرادقات الكبرياء : إنك ما عرفتني ، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض عليَّ في شيء من أفعالي ، فأنا الله لا إله إلا أنا لا أُسألُ عما أفعل . قال الشهرستاني : اعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون ، وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات تخلصًا ، أما إذا أجبنا بما أجاب به الحق سبحانه زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات . هـ . قلت : من تشمرت فكرته بنور المعرفة ، وعرف أسرار الحكمة والقدرة ، لم يصعب عليه مثل هذه الشبهات ، وسأذكر الجواب عنها على سبيل الاختصار : أما الحكمة في أيجاد خلقه فخلقهم ليعرف بهم . وفي الحديث القدسي : " كنت كنزًا لم أعرف ، فأحببت أن أعرف ، فخلقت خلقًا لأعرف بهم " ، وليظهر بهم آثار قدرته وأسرار حكمته . وأما تعذيب الكافر بالآلام فليظهر فيه مقتضى اسمه المنتقم . أما فائدة التكليف فلتقوم الحجة على العبيد ، وليتميز من يستحق الإحسان ممن يستحق العذاب ، فإذا عذبه لم يكن ظالمًا له { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] ، ولتظهر صورة العدل في الجملة . وأما تكليفه بالسجود لآدم فلأنه ادعى المحبة ، ومقتضاها الطاعة للحبيب في كل ما يشير إليه ، ولا تصعب إلا في الخضوع للجنس ، أو مَن دونه ، فأمره بالسجود لمن دُونه في زعمه ليظهر كذبه في دعوى محبته ، وأما لعنه وطرده فهو جزاء من كذب وعصى . وهذا الطرد كان في علمه تعالى ، ولكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأسباب وارتباطها بالمسببات ، فكان امتناعه واعتراضه سببًا لإظهار ما سبق له في علم الله ، كما كانت وسوسته لآدم سببًا في إظهار خروجه من الجنة السابق في علم الله . وأما تمكينه من دخول الجنة فليتسبب عنه هبوط آدم الذي سبق في علمه لأن الحكمة اقتضت أن لكل شيء سببًا . أما تسلطه على أولاده ، فليكون منديلاً تمسح به أوساخ الأقدار إذا إن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان إنما هو بمشيئة الواحد القهار ، ولا فعل لغيره ، لكن الحق تعالى علمنا الأدب ، فخلق الشيطان والنفس والهوى مناديل ، فما كان فيه كمال نسبه لله ، وما كان فيه نقص نسبه للشيطان والنفس أدبًا مع الحضرة . وأما إمهاله فليدوم هذا المنديل عندهم ، يمسحون فيه أوساخ المقادير التي تجري عليهم إلى انقضاء وجودهم . وقوله : معلوم أن العالم لو كان خاليًا من الشر لكان ذلك خيرًا ، مغالطة لأن حكمته تعالى اقتضت وجود الضدين : الخير الشر ، وبهما وقع التجلي والظهور ليظهر آثار أسمائه تعالى فإن اسمه المنتقم والقهار يقتضي وجود الشر ، فيما نفهم ، وليظهر انتقامه وبطشه للعيان ، ومعلوم أن الملك إذا وصف بوصف جلالي أو جمالي لا يظهر شرف ذلك الاسم إلا بظهور آثاره في مملكته . وقوله : إنك ما عرفتني … الخ … يقتضي أنه لو عرف الله حق معرفته لفهم أسرار هذه الأشياء التي اعترض بها على ما بيناها . والله تعالى أعلم . الإشارة : الأكوان ظاهرها أغيار ، وباطنها أنوار وأسرار ، فمن وقف مع ظاهرها لزمه الاعتراض والإنكار ، ومن نفذ إلى شهود باطنها لزمه المعرفة والإقرار ، ولعل إبليس لم يرَ في حال الأمر بالسجود من آدم إلا الأغيار ، ولو رأى باطنه لكان أول ساجد لله الواحد القهار . ثم ذكر دخول آدم الجنة وخروجه منها ، فقال : { وَيَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } .