Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 172-174)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { من ظهورهم } : بدل من { بني آدم } ، أي : من ظهور بني آدم ، و { ذريتهم } : مفعول به ، و { بلى } : حرف جواب ، يُجاب بها عن الهمزة إذا دخلت على منفي ، فخرجت عن الاستفهام إلى التقرير ، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما بعد النفي ، نحو : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشّرح : 1 ] ، فيجاب ببلى ، أي : شرحت ، وكذا نظائرها ، ومنه : { إلست بربكم … } الآية . وقد يجاب بها الاستفهام المجرد عن النفي ، كما في الحديث : " أتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ ؟ قالوا : بلى " ولكنه قليل ، فلا يُقاس عليه ، بل يوقف على ما سمع ، والكثر : أنها جواب للنفي ، ومعناها : إثبات ما نفي ، ورفع النفي ، لا إثباته وتقريره ، بخلاف " نعم " فإنها تقرر ما قبلها من إثبات أو نفي ، ولذا قال ابن عباس : ولو قالوا : نعم ، لكفروا ، وقد تقدم الفرق بينهما في سورة البقرة ، ثم الكثير : مراعاة صورة النفي ، فيجاب ببلى ، وقد ينظر للمعنى وما يفيده الاستفهام الإنكاري من نفيه للنفي ، فيصير الكلام إيجابًا ، فيصح الجواب بنعم في الجملة ، لكن لمَّا كان محتملاً امتنع في الآية : انظر المغني . وقوله : { أن تقولوا } : مفعول من أجله . يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكروا { إِذْ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم } من ظهور بني آدم { ذريَّتهم } وذلك أن الله تعالى لَمَّا خلق آدم ، وأهبطه إلى الأرض ، أخرج من صلبه نسيم بنيه ، بعضهم من صلب بعض ، على نحو ما يتوالدون ، قرنًا بعد قرن كالذر ، وكان آدم بنَعمان ، وهو جبل يواجه عرفة ، وقال لهم حين أخرجهم : { ألستُ بربكم } ؟ فأقروا كلهم ، و { قالوا بلى } أنت ربنا ، { شهِدْنا } بذلك على أنفسنا ، لأن الأرواح حينئذٍ كانت كلها على الفطرة ، علاّمة دَرَّاكة ، فلما ركبت في هذا القالب نسيت الشهادة ، فبعث اللهُ الأنبياءَ والرسل يُذكِّرون الناس ذلك العهد ، فمن أقرّ به نجا ، ومن أنكره هلك ، ويحتمل أن يكون ذلك من باب التمثيل ، وأن أخذ الذرية من الظهر عبارة عن أيجادهم في الدنيا ، وأما إشهادهم فمعناه : أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته ، وشهدت بها عقولهم ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم ، وقال : { ألست بربكم } ؟ وكأنهم قالوا بلسان الحال : أنت ربنا . والأول هو الصحيح لتواتر الأخبار به ، فقوله : { شَهِدنا } : هو من تمام الجواب ، فهو تحقيق لربوبيته وأداء لشهادتهم بذلك ، فينبغي أن يوقف عليه ، وقيل : إنَّ { شهدنا } : من قول الله أو الملائكة ، فيوقف على { بلى } ، لكنه ضعيف . ثم ذكر حكمة هذا الأخذ ، فقال : { إن تقولوا } أي : فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا { يوم القيامة إِنا كنا عن هذا غافلين } ، أو كراهية أن تقولوا : { إنما أشرك آباؤنا من قبلُ وكنا ذرية من بعدهم } فاقتدينا بهم ، { أفتُهلكنا بما فعل المبطِلُون } ، يعني : آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك ، ولا بد من حذف كلام هنا لتتم الححجة ، والتقدير : أخذنا ذلك العهد في عالم الأرواح ، وبعثنا الرسل يجددونه في عالم الأشباح ، كراهة أن تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين ، ويدل على هذا قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً … } [ الإسرَاء : 15 ] الآية . وقوله : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ } [ النساء : 165 ] ، ولا يكفي مجرد الإشهاد الروحاني في قيام الحجة لأن ذلك العهد نسيته الأرواح حين دخلت في عالم الأشباح ، فلا تهتدي إليه إلا بدليل يُذكرها ذلك . قال البيضاوي : والمقصود من إيراد هذا الكلام ها هنا : إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام ، بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم ، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ، ومنعهم من التقليد ، وحملهم على النظر والاستدلال ، كما قال تعالى : { وكذلك نفصل الآيات } الدالة على وحدانيتنا سمعاً وعقلاً ، { ولعلهم يرجعون } عن التقليد واتباع الباطل . الإشارة : أَخَذَ الحقّ جلّ جلاله العهد على الأرواح أن تعرفه وتُوحده مرتين ، أحدهما : قبل ظهور الكائنات ، والثاني : بعد ظهورها . والأول أخذه عليها في معرفة الربوبية ، والثاني تجديدًا له مع القيام بآداب العبودية . قال بعضهم : أخذ الأول على الأرواح يوم المقادير ، وذلك قبل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، ثم أخذ الثاني على النفوس بعد ظهورها في عالم الأشباح ، كما نبهت عليه الآية والأحاديث . وقال ابن الفارض في تائيته : @ وَسَابِقِ عَهْدٍ لَمْ يَحُل مُذ عَهِدتُهُ ولا حِقِ عَقدٍ جَلَّ عَنْ حَلِّ فتْرَهِ @@ قال القاشاني : أراد بالعهد السابق : ما أخذه الله على الأرواح والإنسانية المستخرجة من صلب الروح الأعضم ، الذي هو آدم الكبير ، في صور المثل ، قبل تعلقها بالأشباح ، وهو عقد المحبة بين الرب والمربوب ، في قوله سبحانه : { وإذ أخذ ربك … } الآية . وبالعهد اللاحق : ما أخذه عليهم بواسطة الأنبياء ، من عقد الإسلام بعد التعلق بالأبدان ، وهو توكيدٌ للعهد الأول ، وتوثيقه بالتزام أحكام الربوبية والتزامها . هـ . وقال في الحاشية : كلام ابن الفارض ينظر إلى العهد الأول ، الروحاني ، وكلام غيره ينظر إلى الثاني النفساني ، وهو ظاهر الآية . هـ . قلت : وفيه نظر ، فإن كلام ابن الفارض مشتمل على العهدين معًا ، الروحاني في الشطر الأولى ، والنفساني في الشطر الثاني . والحاصل مما تقدم : أن العهد أخذ على الأرواح ثلاث مرات ، أحدها : حين استخرجت من صلب الروح الأعظم الذي هو آدم الكبير ، وهو معنى القبضة النورانية ، التي آخذت من عالم الجبروت . والثاني : حينن استخرجت من صلب آدم الأصغر ، كالذر ، والثالث : حيث دخلت في عالم الأشباح ، على ألسنة الرسل ، ومن ناب عنهم ، فالمذكور في الآية هو الثاني ، وهو أحسن من حَملِ القاشاني الآية على الأول . فالحاصل : أن الأخذ الأول كان على الأرواح مجردة عن مادة التطوير والتمثيل ، بإقرارها إقرار النفوس ، لا إقرار الألسنة ، والأخذ الثاني كان على الأرواح بعد خروجها من الوجود العلمي إلى الوجود العيني ، فتطورت الأرواح بصفاتها الذاتية ، من سمع وبصر ولسان وغيرها ، في عالم المثال ، بصور مقالية لتُبصر بها ظهور الرب ، وتسمع خطابه ، وتجيب سؤاله ، بإقرارها حينئذٍ إقرار الألسنة ، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية . وأما العهد الذي أخذه بواسطة الأنبياء في ظهور عالم الأشباح فإنما هو تذكير للعهدين وتجديد لهما وهو الذي تقوم به الحجة عليها ، فلا بد من انضمامه إِلى الأوَّلَين في قيام الحجة ، كما تقدم . فالموجدات ثلاث : علمي ، ثم خيالي مثالي ، ثم نوعي حسي . فَأُخِذَ على كل واحد عهد من الأَوَّلَيْنِ بلا واسطة ، والثالث بواسطة الرسل . والله تعالى أعلم . ثم ذكر وبال من نقض هذا العهد ، مع تمكنه من العلم به ، فقال : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا } .