Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 187-187)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : إنما سميت القيامة ساعة : لسرعة حسابها ، أو وقوعها ، لقوله : { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النّحل : 77 ] . يقول الحقّ جلّ جلاله : { يسألونك } أي : قريش ، { عن الساعة } أي : قيام الناس من قبورهم للحساب ، { أيَّان مُرسَاها } أي : متى إرساؤها ، أي : ثبوتها ووقوعها ؟ { قل إنما علمها عند ربي } استأثر بعلمها ، لم يطلع عليها ملكًا مقربًا ، ولا نبيًا مرسلاً { لا يُجلِّيها لوقتها } أي : لا يُظهرها عند وقت وقوعها ، { إلا هو } ، والمعنى إن إخفاءها يستمر إلى وقت وقوعها ، { ثَقُلَت في السماوات والأرض } عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها ، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها . أو ثَقُلَت على السماوات والأرض أنفسهما لتبدلهما وتغير حالهما ، { لا تأتيكم إلا بغتةً } : فجأة على غفلة ، كما قال صلى الله عليه وسلم " إنَّ الساعَة تَهِيجُ بالنَّاسِ ، والرَّجُلُ يُصلِحُ حَوضَهُ ، والرَّجُلُ يَسقِي مَاشِيتَهُ ، والرَّجلُ يُقَوَّم سِلعَته في سُوقِه ، والرَّجُل يَخفِضُ مِيزَانَهُ ويرفعه " والمراد : النفخ في الصور للصعق ، لأن الساعة مُرَتَّبة عليه وقريبة منه . { يسألونك كأنك حَفِيٌّ عنها } أي : عالم بها ، من حفى على الشيء : إذا سأل عنه ، فإنَّ من بالغ في السؤال عن الشيء ، والبحث عنه ، استحكم علمه فيه ، أي : يسألونك عن وقت قيامها ، كأنك بليغ في السؤال عنها فعلمتها ، وليس كما يزعمون ، وأما قوله : { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَآ } [ النَّازعَات : 43 ] : فقيل : معناه : التعجب عن كثرة اهتمامه بالسؤال ، أي : في أي شغل أنت من ذكراها والسؤال عنها ؟ ولا يُعارض ما هنا لأنه استغنى عن ذلك بتلك الآية ، وبعدها نزلت هذه ، والله أعلم . وقيل : " عنها " : يتعلق بـ { يسألونك } ، أي : يسألونك عنها كأنك حفي بهم ، أي : شفيق بهم ، قيل : إن قريشًا قالوا : إنَّ بيننا وبينك قرابة ، فقل لنا : متى الساعة ؟ فقال له الحق تعالى : { قل إنما علمها عند الله } لا يعلمها غيره ، وكرره لتكرر " يسألونك " . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن علمها عند الله لم يؤته أحدًا من خلقه . الإشارة : إذا أشرق نور اليقين في القلب صارت الأمور المستقبلة حاصلة ، والغائبة حاضرة ، والآجلة عاجلة ، فأهل اليقين الكبير قدّموا ما كان آتيًا ، فحاسبوا أنفسهم قبل أن يُحاسبوا ، ووزنوا أعمالهم قبل أن تُوزن عليهم ، وجازوا الصراط بسلوكهم المنهاج المستقيم ، ودخلوا جنة المعارف قبل حصول جنة الزخارف ، فالموت في حقهم إنما هو انتقال من حال إلى حال ، ومن مقام إلى مقام ، ومن دار الغرور إلى دار الهناء والسرور . وفي الحِكم : " لو أشرق لك نور اليقين في قلبك ، لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها ، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفَنَاء عليها " . قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : نور اليقين تتراءىء به حقائق الأمور على ما هي عليه ، فيحق به الحق ، ويبطل به الباطل ، والآخرة حق ، والدنيا باطل ، فإذا أشرق نور اليقين في قلب العبد أبصر به الآخرة التي كانت غائبة عنه حاضرة لديه ، حتى كأنها لم تزل ، فكانت أقرب إليه من أن يرتحل إليها ، فحق بذلك حقها عنده ، وأبصر الدنيا الحاضرة لديه ، قد انكسف نورها وأسرع إليها الفناء والذهاب ، فغابت عن نظره بعد أن كانت حاضرة ، فظهر له بطلانها ، حتى كأنها لم تكن ، فيوجب له هذا النظر اليقيني الزهادة في الدنيا والتجافي في زهرتها ، والإقبال على الآخرة ، والتهيؤ لنزول حضرتها ، ووجدان العبد لهذا هو علامة انشراح صدره بذلك النور . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ النورَ إذا دَخَلَ القلبَ انشرحَ له الصَّدرُ وانفسَحَ " ، وقِيلَ يا رَسُولَ اللهِ : هَل لذلكَ مِن عَلامَةٍ يُعرَفُ بِها ؟ قال : " نعَمَ . التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ ، والاستِعدَادُ للمَوتِ قَبل نُزُولهِ " أو كما قال صلى الله عليه وسلم ـ . وعند ذلك تموت شهواته وتذهب دواعي نفسه ، فلا تأمره بسوء ، ولا تطالبه بارتكاب منهي ، ولا تكون لهم همة إلا المسارعة إلى الخيرات ، والمبادرة لاغتنام الساعات والأوقات ، وذلك لاستشعاره حلول الأجل ، وفوات صالح العمل ، وإلى هذا الإشارة بحديثي حارثة ومعاذ رضي الله عنهما ـ . رَوى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله شابٌ من الأنصار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ أصبحَتَ يا حارثةٌ ؟ " قال : أصبحت مؤمنًا بالله حقًا ، قال : " انظر ما تقول ، فإن لكلِّ قَولٍ حقيقة ؟ " فقال : يا رسولَ الله عَزَفت نَفسِي عن الدنيا فأسهَرْتُ لَيلي وأظمَأتُ نهاري ، وكأني بعَرش ربي بارزًا ، وكأني أنظر إلى أهلِ الجنّةِ يَتَزَاوَرُون فيها ، وكأني أنظرُ إلى أهل النار يتعاوون فيها ، فقال : " أبصَرتَ فالزَم ، عَبدٌ نور اللهُ الإيمانَ في قلبه … " إلى آخر الحديث . وروى أنس رضي الله عنه أيضًا : أن معاذَ بن جبل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال له : " كيف أصبحتَ يا معاذ ؟ " فقال : أصبحتُ بالله مؤمنًا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ لكل قول مصداقًا ، ولكل حق حقيقة ، فما مصداق ما تقول ؟ " فقال : يا نبيَّ اللهِ ، ما أصبحتُ صباحًا قط إلا ظننتُ أني لا أُمسي ، ولا أمسَيتُ قط إلا ظننت إني لا أُصبِح ، ولا خَطَوتُ خطوةً قط إلا ظننتُ أني لا أُتبِعُها أُخرَى ، وكأني أنظرُ إلى كل أمةٍ جاثية تُدعى إلى كتابها ، معها نبيُها وأوثَانُها التي كانت تعبدُ من دون اللهِ ، وكأني أنظرُ إلى عُقُوبَةِ أهلِ النَّارِ وثوابِ أهلِ الجنة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَرَفَت فالزَم " انظر بقية كلامه رضي الله عنه . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاعتراف بالتقصير عن علم الغيب ، الذي اختص الله به كعلم الساعة وغيرها ، فقال : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } .