Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 70, Ayat: 1-18)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { سأل سائل } ، قرأ نافع والشاميّ بغير همز ، إمّا من السؤال ، على لغة قريش ، فإنهم يُسهّلون الهمز ، أو مِن السّيلان ، ويُؤيده أنه قُرىء " سَال سيْل " أي : سال وادٍ { بعذابٍ واقعٍ للكافرين } يوم القيامة ، والتعبير بالماضي لتحقُّق وقوعه ، أو في الدنيا ، وهو عذاب يوم بدر ، وقرأ الباقون بالهمز ، من السؤال أي : طَلَبَ طالب ، وهو النضر بن الحارث ، حيث قال استهزاءً : { إِن كَانَ هّذاَ هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ ٱلسَّمَآءِ } [ الأنفال : 32 ] وقيل : أبو جهل حيث قال : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ ٱلسَّمَآءِ } [ الشعراء : 187 ] ، وقيل : هو الحارث بن النعمان الفهري ، وذلك أنه لمّا بلغه قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عَلِيّ : " مَن كنتُ مولاه فَعَلِيٌّ مولاه " ، قال : اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا فأَمْطِر علينا حجارةً من السماء ، فما لبث حتى رماه الله بحَجَر ، فوقع على دماغه ، فخرج من أسفله ، فهلك من ساعته . وقوله تعالى : { بعذاب } إذا كان " سال " من السيلان ، فالباء على بابها ، أي : سال واد بعذاب للكافرين ، وإذا كان من السؤال فالباء بمعنى " عن " كقوله تعالى : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] أي : سأل عن عذاب ، أو ضَمَّن " سأل " معنى دعا ، فعدّى تعديته ، مِن قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، ومنه قوله تعالى : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ } [ الدخان : 55 ] أي : دعا داع بعذابٍ واقع لا محالة ، إما في الدنيا أو الآخرة ، و " للكافرين " : صفة ثانية لعذاب ، أي : بعذاب واقع حاصل للكافرين ، أو متعلق بسَأل ، أي : دعا للكافرين بعذاب واقع ، { ليس له } أي : لذلك العذاب { دافع } راد { من الله } : متصل بواقع ، أي : واقع من عند الله ، أو بدافع ، أي : ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته ، والجملة : صفة أخرى لعذاب ، أو حال منه أو استئناف . { ذي المعارج } أي : ذي المصاعد ، التي تصعد فيها الملائكة بالأوامر والنواهي ، وهي السموات المترتبة بعضها فوق بعض ، أو : ذي الفواضل العالية ، أو معالي الدرجات ، أو الدرجات التي يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح ، أو : يرقى فيها المؤمنون في سلوكهم . { تعرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ } أي : جبريل عليه السلام ، أُفرد بالذكر لتميُّزه وفضله ، أو الروح : خلقٌ من الملائكة هم حفظة على الملائكة ، كما أنَّ الملائكة حفظةٌ علينا ، أو : أرواح المؤمنين عند الموت ، فإنها تعرج إلى سدرة المنتهى ، فتُحاسَب ، ثم تدخل الجنة لترى مقعدها ، ثم ترجع للسؤال في القبر ، وقوله تعالى : { إِليه } أي : إلى عرشه ومهبط أمره { في يوم كان مقدارُه خمسين ألفَ سنةٍ } مما يعده الناس ، وهو بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبُعد مداها ، على منهاج التمثيل والتخييل . والمعنى : أنها من الارتفاع بحيث لو قدر قطعها في زمان لكان ذلك الزمان مقدار خمسين ألف سنة من سِنيِّ الدنيا ، وقيل : معناه : تعرج الملائكة والروح إلى عرشه تعالى في كل يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، أي : يقطعون في يوم ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة . وقد تقدّم الجواب في سورة السجدة عن المعارضة بين ما هنا وبين قوله هناك : { كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ السجدة : 5 ] ، وحاصله : أنَّ الحق تعالى موجود في كل زمان ومكان ، فلا يخلو منه مكان ولا زمان ، فحيث علّق العروج بتدبير الأمر قرَّب المسافة ، وحيث علّقه بذاته ، بحيث جعل العروج إليها ، بعَّدها تنبيهاً على علو شأنه وارتفاع عظمته . وقيل : هو من [ صلة ] قوله : { واقع } أي : يقع ذلك العذاب في يوم طويل ، مقداره خمسون ألف سنة ، وهو يوم القيامة ، فإمّا أن يكون استطالته كناية عن شدته على الكفار ، أو لأنه يطول حقيقة ، فقد قيل : فيه خمسون موطناً ، كل موطن ألف سنة ، وما قّدْر ذلك على المؤمن إلاَّ كما بين الظهر والعصر أو أقل ، على قدر التخفيف اليوم ، وفي حديث أبي سعيد الخدري : قيل : يا رسول الله ، ما أطول هذا اليوم ؟ فقال عليه السلام : " إنه ليخف على المؤمن ، حتى يكون أخف من صلاة مكتوبة يُصلّيها في الدنيا " . وقال عبد الحق في العاقبة : إنَّ طول اليوم ذلك المقدار ، ولكن مِن الناس مَن يطول قيامه وحبسه إلى آخر اليوم ، ومنهم مَن ينفصل في مقدار يوم من أيام الدنيا ، وفي ساعة من ساعته ، وفي أقل من ذلك ، يكون رائحاً في ظل كسبه ، وعرش ربه ، ومنهم مَن يؤمر به للجنة من غير حساب ولا عذاب ، كما أنَّ منهم مَن يُؤمر به إلى النار في أول الأمر ، من غير وقوف ولا انتظار ، أو بعد يسير من ذلك . هـ . وقال القشيري ما معناه : يحاسب الخلق في يوم قصير ووقت يسير ، ما لو كان الناس يشتغلون به لكان ذلك خمسين ألف سنة ، والله يُجري ذلك ويُمْضِيه في يوم واحد . هـ . بعيد . { فاصبرْ } يا محمد { صبراً جميلاً } ، وهو متعلق بـ " سأل سائل " لأنَّ استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالوحي ، وكان ذلك مما يؤذي الرسولَ عليه الصلاة والسلام فأُمر بالصبر عليه . والصبر الجميل : ألاَّ يصحبه جزع ولا شكوى . قال بعضهم : الأمر بالصبر الجميل مُحْكم في كل حال ، فلا نسخ فيه ، وقيل : نسخ بالقتال . { إِنهم } أي : الكفار { يَرَوْنه } أي : العذاب ، أو يوم القيامة { بعيداً } مستحيلاً ، { ونراه قريباً } كائناً لا محالة ، فالمراد بالبعيد : البعيد من الإمكان ، وبالقريب : القريب منه ، أي : ونعلمه هيّناً في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذّر . ثم بيَّن وقته بقوله : { يومَ تكونُ السماءُ كالمُهْل } ، فهو متعلق بـ " قريباً " أي : يمكن ويقع في ذلك اليوم . قال أبو السعود : ولعل الأقرب أن قوله تعالى : { سأل سائل } حكاية لسؤالهم المعهود ، على طريقة قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ } [ الأعراف : 187والنازعات : 42 ] وقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا ٱلْوَعْدُ } [ يونس : 48 ] ونحوه ، إذ هو المعهود بالوقوع على الكافرين ، لا ما دعا به النضر أو أبو جهل أو الفهري ، فالسؤال بمعناه ، والباء بمعنى " عن " ، وقوله تعالى : { ليس له دافع ، من الله } : استئناف مسوق لبيان وقوع المسؤول عنه لا محالة وقوله تعالى : { فاصبرْ صبراً جميلا } مترتب عليه ، أي : فاصبر فإنه يقع لا محالة . وقوله تعالى : { إنهم يرونه بعيداً … } الخ تعليل للأمر بالصبر . وقوله تعالى : { يوم تكون } : متعلق بـ " ليس له دافع " أو : بما يدل عليه ، أي : يقع يوم تكون السماء كالمُهل ، وهو ما أذيب على مَهَل من النحاس والقار ، وقيل : كدرديِّ الزيت . هـ . { وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ } كالصوف المصبوغ ألواناً لأن الجبال { جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [ فاطر : 27 ] ، فإذا بُسّت وطُيِّرَتْ في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا أطارته الريح ، { ولا يَسألُ حميمٌ حميماً } أي : لا يسأل قريب عن قريبه لاشتغاله بنفسه ، ومَن قرأ بضم الياء فمعناه : لا يُسأل عنه ، بل كلّ واحد يُسألُ عن نفسه ، فلا يُطالب أحد بذنب أحد . { يُبَصَّرُونَهم } أي : يبصر الأحماءُ قرباءهم ، فلا يخفون عنهم ، وما يمنعهم من السؤال إلا اشتغالهم بحال أنفسهم . والجملة صفة لحميم ، أي : حميماً مبصَّرين ، أو : استئناف بياني ، كأنه قيل : لعله لا يبصّر به ، فقيل : يبصّرونهم ولكن لتشاغلهم لم يتمكنوا من التساؤل عنهم ، وإنما جمع الضميران ، وهما للحميمين لعموم الحميم ، ولأن فعيلاً يقع على الجمع . { يَودُّ المجرمُ } أي : يتمنى الكافر ، وقيل : كل مذنب ، { لو يفتدي من عذابِ يومئذٍ } أي : العذاب الذي ابتلي به يومئذ . وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم على البناء لإضافته إلى غير متمكّن ، { ببنيهِ وصاحبتهِ } أي : زوجته { وأخيه } ، والجملة استئنافية ، لبيان أنَّ اشتغال كل واحد منهم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدى بأقرب الناس إليه ، و " لو " تمنية ، أو مصدرية ، أي : يود فداء ببنيه … الخ { وفَصِيلَتِه } أي : عشيرته الأدنين ، التي انفصل عنها ، { التي تُؤويه } أي : تضمه في النسب ، أو عند الشدائد ، { ومَن في الأرض جميعاً } من الخلائقن يتمنى الافتداء بهم ، { ثم يُنجيه } الافتداء ، وهو عطف على " يفتدي " أي : يود لوم يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء ، و " ثم " لاستبعاد الإنجاء ، يعني : يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده ، وبذلهم في فداء نفسه ، ثم ينجيه ذلك ، وهيهات . { كلاًّ } ، ردع للمجرم عن الودادة وتصريح بامتناع الافتداء ، { إِنها } أي : النار ، المدلول عليها بالعذاب ، أو ضمير مبهم ، ترجم عنه الخبر ، أو ضمير القصّة ، { لَظَى } علم للنار ، منقول من اللظى بمعنى اللهب ، { نزاعة لِلشَّوَى } خبر بعد خبر ، ومَن نصب فعلى الحال المؤكدة ، أو على الاختصاص للتهويل . والشَّوى : أطراف الإنسان ، كاليدين والرجلين ، أو : جمع شواة ، وهي جلدة الرأس ، تنزعها النارُ نزعاً ، فتفرّقها ، ثم تعود إلى ما كانت . { تَدعو } أي : تجذبُ ، وتخطف ، أو : تدعوهم بأسمائهم : يا كافر يا منافق إليَّ ، وقيل : تدعو المنافقين بلسان فصيح ، ثم تلتقطهم التقاط الحب ، أو : تُهْلِك ، من قولهم : دعاك الله ، أي : أهلكك ، أو : لمّا كان مصيره إليها جُعلت كأنها دعته . وقيل : تدعو زبانيتها ، ومفعول تدعو : { مَنْ أدبرَ } عن الحق { وتولَّى } أعرض عن الطاعة ، { وجمع } المال { فأوْعى } جعله في وعاء ، وكَنَزَه ولم يؤدِّ حق الله فيه ، أو تشاغل به عن الدين ، وزهى باقتنائه حرصاً وتأميلاً ، عائذاً بالله من ذلك . الإشارة : سال إلى قلوب أهل الغفلة والإنكار سايل من بحر الهوى ، بعذاب واقع نازل بقلوبهم من الجزع والهلع والشكوك والخواطر ، أو : سأ سائل عن عذاب واقع لأهل الإنكار ، وهو غم الحجاب ، وسوء الحساب ، ليس له دافع من جهته تعالى لأنه حكم به على أهل البُعد والإنكار . وهو تعالى ذو المعارج ، أي : ذو المراقي ، تترقى إليه الأرواح والأسرار ، من مقام إلى مقام ، من مقام الإسلام إلى الإيمان ، ومن الإيمان إلى الإحسان ، أو : من عالَمٍ إلى عالَمٍ ، من عالَم المُلك إلى الملكوت ، ومن عالَم الملكوت إلى الجبروت ، ومن عالَم الجبروت إلى الرحموت . تعرج الملائكة والروح إليه ، أمّا الملائكة فتنتهي إلى الدهش والهيمان ، وأما الروح الصافية فتنتهي إلى شهود الذات بالصحو والتمكين ، وهذا مقام خاصة الخاصة من النبيين والصدِّيقين ، تنتهي إلى هذا المقام في زمن يسير ، إن سبقت العناية واتصل صاحبها بالخبير ، وفي زمن طويل إن لم يتصل بالخبير ، ولذلك قال تعالى : { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } أي : يقطع ذلك في يوم كان مقداره لو صار بنفسه خمسن ألف سنة . واعلم أنَّ الحق تعالى لا يتصف بقُرب ولا بُعد ، هو أقرب إلى كل شيء من كل شيء ، وإنما بعّد النفوسَ جهلُها به تعالى ووهْمُها وغفلتها ، فإذا ارتفع الجهل والوهم ، وَجَدت الحقّ كان قريباً وهي لا تشعر . قال الورتجبي : ليس للحق مكان ومنتهى ، حتى أن الخلق يعرجون إليه ، بل إنَّ ظهور عزته وجلاله في كل ذرة عيانٌ ، فإذا رَفَعْتَ القربَ والبُعدَ من حيث المسافة ، وأدرجت الأوهام والأفهام لم يكن بين الحق والروح فصل ، وصول الحق لأهل الحق بأقل طرفة ، فإنَّ الوصل منه ، وهو قريب غير بعيد . هـ . فاصبر أيها السائر صبراً جميلاً لتظفر بالوصل الدائم ، إنهم أي أهل الغفلة يرونه بعيداً ، ونراه قريباً لمن قربتُه عليه ، يوم تكون السماء كالمُهل ، أي : وقت الوصول هو حين تتلطّف العوالم وتذوب الكائنات ، فيتصل بحر الأزل بما لم يزل ، فلم يبقَ إلاَّ الأزل ، قال بعض المحققين : حقيقة المشاهدة : تكثيف اللطيف ، وحقيقة المعاينة : تلطيف الكثيف ، فافهم . ولا يسأل حميمٌ حميماً ، أي : لا مودة بين أهل البُعد وأهل القرب ، ولو كان مِن أقرب الناس إليه نسباً ، وهذا مثل قوله : { لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَٱلْيَوْمِ ألآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللهَ وَرَسُولَهُ … } [ المجادلة : 22 ] الآية . يَوَدُّ المجرمُ ، حين يرى ما خص اللهُ به أولياءه من العز والقُرب ، لو يفتدي بجميع مَا يملك ، بل بجميع أهل الأرض مما نزل به من عذابِ القطيعة والبُعد ، كلاّ إنها ، أي : نار القطيعة ، لَظَى ، نزاعةَ لرِفْعَةِ الرؤوس ، بل تحطها عن مراتب المقربين ، تدعوا مَن أدبر عن المجاهدة والتربية ، وجَمَعَ الدنيا فأوعاها ، وهذا هو الهلوع الذي أشار إليه بقوله : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } .