Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 70, Ayat: 19-35)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ الإِنسانَ خُلق هلوعاً } ، قال ابن عباس : الهلوع : الحريص على ما لا يجده ، وعن الضحاك : هو الذي لا يشبع . وأصل الهلع : أشد الحرص وأسوأ الجزع ، قال صلى الله عليه وسلم : " شر ما أعطي العبدُ شحٌّ هالع ، وجُبن خالعٌ " ، وأحسن تفاسيره : ما فسّره به الحق تعالى بقوله : { إِذا مسّه الشرُّ جَزوعاً } مبالغ في الجزع ، { وإِذا مسّه الخيرُ } أي : السعة والعافية { مَنوعاً } مبالغاً في المنع والإمساك ، وسُئل ثعلب عن الهلوع ، فقال : قد فسّره اللهُ تعالى ، ولا يكون تفسيرٌ أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شرٌّ أظهر شدّة الجزع ، وإذا ناله خيرٌ بخل ومنع ، وهذا طبعه ، وهو مأمور بمخالفة طبعه ، وموافقة شرعه . والشرُّ : الضرُّ والفقر ، والخير : السعة والغنى . ثم استثنى مِن الإنسان لأنَّ المراد به الجنس ، فقال : { إِلاَّ المُصَلِّين الذين هم على صلاتهم دائمون } لا يشغلهم عنها شاغل لاستغراقهم في طاعة الخالق ، واتصافهم بالإشفاق على الخلق ، والإيمان بالجزاء ، والخوف من العقوبة ، وكسر الشهوة ، وإيثار الآجل على العاجل ، على خلاف القبائح المذكورة ، التي طبع عليه البشر . قال ابن جُزي : لأنَّ صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا ، فلا يجزعون مِن شرها ، ولا يبخلون بخيرها . هـ . وسيأتي في الإشارة تحقيقها إن شاء اللهُ . { والذين في أموالهم حقٌّ معلومٌ } يعني الزكاة لأنها مقدّرةٌ معلومةٌ ، أو صدقةٌ يوظفها الرجلُ على نفسه ، يؤديها في أوقات معلومة ، { للسائلِ } الذي يسأله ، { والمحرومِ } الذي لا يسأله تعفُّفاً ، فيظن أنه غني ، فيُحرم . { والذين يُصَدِّقُونَ بيوم الدين } أي : يوم الجزاء والحساب ، فيتعبون أنفسَهم في الطاعات البدنية والمالية طمعاً في المثوبة الأخروية ، فيستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء . { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة ، استقصاراً لها ، واستعظاماً لجانبه عزّ وجل ، كقوله : { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ … } [ المؤمنون : 60 ] ، الخ { إِنَّ عذابَ ربهم غيرُ مأمونٍ } ، هو اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحدٍ أن يأمنَ مِن عذابه تعالى ، ولو بلغ في الطاعة ما بلغ ، بل ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء كجناحي الطائر . { والذين هم لفروجهم حافظون إِلاَّ على أزواجهم } نسائهم ، { أو ما ملكتْ أيمانُهم } أي : إيمائهم { فإِنهم غيرُ ملومين } على ترك الحفظ ، { فمَن ابتغَى } أي : طلب منكحاً { وراءَ ذلك } غير الزوجات والممولكات { فأولئك هم العادُون } المتعدُّون لحدود الله ، المتجاوزون عن الحلال إلى الحرام . وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم ، والاستمناء بالكف ، لكنه أخف من الزنا واللواط . { والذين هم لأماناتهِم } وهي تتناول أمانات الشرع ، وهي التكاليف الشرعية ، وأمانات العباد ، { وعهدِهم } أي : عهودهم ، ويدخل فيه عهود الخلق ، والنذور والأيمان ، { راعون } حافظون ، غير خائنين ، ولا ناقضين ، وقيل : الأمانات : ما تدل عليه العقول ، والعهد : ما أتى به الرسولُ . { والذين هم بشهادتهم قائمون } يقيمونها عند الحُكّام بالعدل ، بلا ميل إلى قريب وشريف ، ولا ترجيح للقوي على الضعيف ، وإظهار للصلابة في الدين ، وإحياء لحقوق المسلمين ، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الأمانات لإبانة فضلها . { والذين هم على صلاتهم يُحافظون } يُراعون شرائطها ، ويُكملون فرائضها وسننها ومستحباتها ، وكرر ذكرها لبيان أنها أهمّ ، أو : لأن إحداهما للفرائض ، والأخرى للنوافل . وقيل : الدوام عليها : الاستكثار مِن تكررها ، والمحافظة عليها : ألاّ تضيع عن أوقاتها ، أو : الدوام عليها : أداؤها في أوقاتها ، والمحافظة عليها : إتقانها وحفظ القلب في حضورها ، أو : المراد بالأولى : صلاة القلوب ، وهي دوام الحضور مع الحق ، وبالثانية : صلاة الجوارح . وتكرير الموصولات تنزيلٌ لاختلاف الصفات منزلةَ اختلاف الذوات ، إيذاناً بأن كل واحد من الصفات المذكورة نعت جليل على حِياله له شأن خطير ، حقيق بان يفرد له موصوف مستقل ، ولا يجعل شيء منها تتمة للآخر . { أولئك } أي : أصحاب هذه الصفات الجليلة . وما فيه من معنى البُعد مع قُرب العهد بالمُشار إليه للإيذان بعلو شأنهم وبُعد منزلتهم في الفضل ، { في جناتٍ مُكرَمون } أي : مستقرُّون في جناتٍ لا يُقادَر قدرها ، ولا يدرك كنهها ، معظَّمون فيها ، منعَّمون ، وهما خبران للإشارة ، أو : : في جنات " متعلق بمكرَمون . الإشارة : طبعُ الإنسان من حيث هو : الجزع والهَلع ، لخراب الباطن من النور ، إلاّ أهل التوجه ، وهم مَن مَنَّ اللهُ عليهم بصُحبة أهل الغنى بالله ، وهم الذين ذّكَرَ اللهُ بقوله : { على صلاتهم دائمون } أي : صلاة القلوب ، وهي دوام الحضور مع الحق ، باستغراق أفكارهم في أسرار التوحيد ، وهو مقام الفناء في الذات ، فهم الذين تطهَّروا من الهلع لِما باشر قلوبَهم من صفاء اليقين ، فمَن لم يبلغ هذا لا ينفك طبعه عن الهلع والطمع ، ولو بلغ ما بلغ . قيل لبعضهم : هل للقلوب صلاة ؟ قال : نعم إذا سجد لا يرفع رأسه أبداً . هـ . أي : إذا واجهته أنوارُ المواجهة خضع لها على الدوام ، { والذين في أموالهم } أي : فيما منحهم اللهُ من العلوم والأسرار ، حق معلوم للسائل ، وهو طالب الوصول ، والمحروم ، وهو طالب التبرُّك ، لكثرة علائقه ، أو : لضعف همته ، أو : للسائل ، وهو مَن دخل تحت تصرفهم ، والمحروم : مَن لم يدخل في تربيتهم ، فله حق ، بإرشاده إلى ما يصلحه مما يقدر عليه وينفعه . والذين يُصدِّقون بيوم الدين ، فيجعلونه نُصب أعينهم ، فيجتهدون في الاستعداد له . { والذين هم من عذاب ربهم } وهو عذاب القطيعة { مُشفقون إنّ عذاب ربهم غير مأمون } ولو بلغ العبد من التمكين ما بلغ لأنَّ الله مُقَلِّب القلوب ولا يأمن مكرَ الله إلاَّ القوم الخاسرون . { والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } فإنهم ينزلون إلى القيام بحقهن بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، فمَن ابتغى وراء ذلك بأن قصد شهوة المتعة ، فأولئك هم العادون ، تجب عليهم التوبة ، والذين هم لأماناتهم ، وهي أنفاس عمرهم ، وساعات أوقاتهم ، أو : الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال ، { وعهدهم } الذي أخذ عليهم في عالم الذر ، وهو الإقرار بالربوبية ، والقيام بوظائف العبودية ، { راعون } ، فهم يراعون أنفاسهم وساعاتِهم ، ويُحافظون عليها من التضييع ، ويُراعون عهودَهم السابقة واللاحقة ، أي مع الله ، ومع عباده ، فيُوفون بها ما استطاعوا ، والمراد نية الوفاء ، لا الوفاء بالفعل ، فمَن عقد عهداً ونيته الوفاء ، ثم منعته الأقدار ، فهو وافٍ به . والذين هم بشهادتهم لأنوار الربوبية قائمون بالأدب معها . والذين هم على صلاتهم الواجبة يحافظون ، شكراً وأدباً . أولئك في جنات المعارف ، مُكرَمون في الدنيا والآخرة . ثم ذكر مَن ليس أهلاً للكرامة ، لِخُلوه عن الخصال المتقدمة ، بل هو أهل للإهانة ، لاستهزائه وتكذيبه ، فقال : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } .