Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 70, Ayat: 36-44)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { فَمَالِ الذين كفروا } ، وكُتب مفصولاً اتباعاً للمصحف ، أي : أيُّ شيء حصل لهم حتى كانوا { قِبلك } أي : حولَك { مُهطِعينَ } مُسرعين ، مادّين أعناقهم إليك ، مقبلين بأبصارهم عليك ، { عن اليمين وعن الشمال } أي : عن يمينك وشمالك { عِزينَ } متفرقين فرقاً شتّى . جمع : عِزَة ، وأصلها : عِزوة ، من العزو ، فعُوِّضت التاء من الواو ، كأنّ كل فرقة تُعزى إلى غير مَن تُعزى إليه الأخرى . والعزة : الفرقة القليلة ، ثلاثة أو أربعة . كان المشركون إذا رأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة يقومون من مجالسهم مسرعين إليه ، ويُحلِّقون حوله حِلقاً حِلقاً ، وفِرقاً فِرقاً ، يستمعون ويستهزئون بكلامه صلى الله عليه وسلم ويقولون : شاعر ، كاهن ، مفتر ، ثم يقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد ، فلندخلنها قبلهم ، فنزلت : { أيَطْمَعُ كلُّ امرىءٍ منهم أن يُدخَلَ جنةَ نعيم } بلا أيمان . { كلاَّ } ، ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ ، وهو دخولهم الجنة بلا إيمان { إِنَّا خلقناهم مما يعلمون } ، تعليل للردع ، أي : إنَّا خلقناهم من نطفةٍ مَذِرة ، فلا يستأهل الكرامة إلاَّ مَن تحلّى بالإيمان والطاعة ، وكسا لوث بشريته بنور إيمانه ، وحلّها بالتقوى ، التي بها العز والشرف والارتفاع في أوج القُربى والكرامة التي محلها الجنة ، إنما تكون بمخالفة الطبيعة ، وغلبة الروح على الطينة الأرضية ، والفرض لعدم ذلك منهم ، فلا يطمعون في كرامات الروحانية ، مع تمحُّض الطينة الجسمانية ، فإنه محال بمقتضى الحكمة . قال أبو السعود : وقيل معناه : إنّا خلقناهم من نطفة مذرة ، فمن أين يتشرّفون ويدّعون التقدُّم ، ويقولون : لَندخلن الجنةّ قبلهم ؟ والفرض أنهم مخلوقون من نطفة قذرة ، لا تُناسب عالم القدس ، فمَن لم يستكمل الإيمان والطاعة ، ولم يتخلّق بأخلاق الملائكة ، لم يتأهّل لدخولها . ثم قال : ولا يخفى ما في الكل من التمحُّل ، والأقرب : أنه كلام مستأنف ، سيق تمهيداً لِما بعده مِن بيان قدرته تعالى ، على أن يهلكهم ، لكفرهم بالبعث والجزاء ، واستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما نزل عليه من الوحي ، وادعائهم دخول الجنة بطريقة السخرية ، وينشىء بدلهم قوماً آخرين ، فإنَّ قدرته على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بيِّنة على قدرته تعالى على ذلك ، كما يُفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى : { فلا أُقسم بربِّ المشارِق والمغاربِ } ، والمعنى : إذا كان الأمر كما ذكرنا من أنّا خلقناهم مما يعلمون فأُقسم برب المشارق والمغارب { إِنَّا لقادِرون على أن نُبدِّل خيراً منهم } أي : نُهلكهم بالمرة ، حسبما تقتضيه جنايتهم ، ونأتي بدلهم بخلقٍ آخرين ليسوا على صفتهم . هـ . { وما نحن بمسبوقين } بعاجزين ، أو بمغلوبين إن أردنا ذلك ، لكن مشيئتَنا المبنية على الحِكمة البالغة اقتضت تأخير عقوبتهم . { فَذَرْهم } فدع المكذِّبين { يخوضوا } في باطلهم ، التي من جملتها ما حكي عنهم ، { ويلعبوا } في دنياهم { حتى يُلاقوا يومَهم الذي يوعدون } ، وهو يوم البعث عند النفخة الثانية ، يدل عليه قوله تعالى : { يوم يَخرجون من الأجدَاثِ } القبور { سِراعاً } جمع سريع ، وهو حال من ضمير " يَخرجون " أي : مسرعين إلى الداعي { كأنهم إِلى نُصُبٍ } ، وهو كل ما نُصب وعُبد من دون الله ، وفيه السكون والفتح . { يُوفضون } يُسرعون ، { خاشعةً أبصارُهم } ، ذليلة ، لا يرفعونها خوفاً وذِلة ، { ترهقهم ذِلةٌ } : يغشاهم هوان شديد ، { ذلك } أي : الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة هو { اليومُ الذي كانوا يُوعَدون } في الدنيا ، وهم يكذّبون به . الإشارة : فما لأهل الإنكار والغفلة قِبَلك أيها الداعي مسرعين ، يُحبون الخصوصية بلا مجاهدة ، أيطمع كل امرىءٍ منهم أن يُدخل جنةَ نعيم الأرواح ، وهي جنة المعارف ، كلاً ، إنّا خلقناهم مما يعلمون من الطينة الأرضية ، فلا يطمع أحدٌ في الخصوصية ، حتى تستولي روحانيتُه على بشريته ، ومعناه على حسه ، وتخنس الطينية الطبيعية تحت أنوار الحقيقة القدسية . قال الورتجبي : امتنَّ اللهُ على أوليائه الصادقين أنه يلبغهم إلى جواره لأنهم خُلقوا من تربة الجنة ، وخُلقت أرواحهم من نور الملكوت ، وإلى مواضعها ترجع ، وللقائه خَلَقَهم ، ومن نوره أوجدهم ، وإنَّ أهل الخذلان خُلقوا من عالم الشهواني والشيطاني ، ومنبعُهما النار ، فيدخلون مواضعهم لأنهم ليسوا من أهل جواره ، ونحن لا ننظر إلى ما خلقنا منه من النطفة والطين ، ولا نعتبر بهما ، نحن نعتبر بالاصطفائية والخاصية في المعرفة ، فإنَّ بهما نصل إلى جوار الله تعالى . هـ . قلت : والتحقيق أنّ البشرية كلها من الطين ، والروح كلها من النور الملكوتي ، فمَن غلب منهما فالحُكم له ، فإنْ غلبت الروحُ تنوّرت البشرية بأنوار الهداية ، وأشرق الباطن بأسرار المعارف ، وإن غلبت البشرية تظلّمت الروح ، فتارة يبقى لها شعاع الإيمان ، وهو مقام أهل اليمين ، وتارة ينطمس عنها ، وهو مقام الكفر ، والعياذ بالله . وقوله : لأنهم خُلقوا من تربة الجنة ، أي : من التربة التي رش عليها من ماء الجنة ، حتى أضيفت إليها ، وقد تقدّم عن القشيري . والله تعالى أعلم . ثم أقسم تعالى على أنه قادر على تبديل الأشباح فيبدل الخبيث إلى الطيب ، وبالعكس ، على حسب مشيئته ، ثم قال : فذر أهل الغفلة يخوضوا في بواطنهم مع الخواطر ، ويلعبوا في ظواهرهم في أمور دنياهم ، حتى يُلاقوا ما يُوعدون ، فيقع الندم حيث لا ينفع . وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد ، وآله .