Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 71, Ayat: 21-28)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { قال نوحٌ ربِّ } أي : يارب { إِنهم عَصَوْنِي } أي : داموا على عصياني فيما أمرتهم ، مع ما بلغت في إرشادهم بالعظة والتذكير ، ولمّا كان عصيانهم مستبعداً لكونه منكراً فظيعاً لأنَّ طاعة الرسول واجبة ، فأصرُّوا على عصيانه ، وعاملوه بأقبح الأحوال والأفعال ، أكّد الجملة بإنَّ ، { واتَّبعوا } أي : اتبع فقراؤهم { مَن لم يزده مالُه وولدُه إِلاَّ خساراً } ، وهم رؤساؤهم ، أي : استمروا على اتباع رؤسائهم ، الذين أبطرتهم أموالُهم ، وغرّتهم أولادُهم ، وصار ذلك سبباً لزيادة خسارهم في الآخرة ، فصاروا أسوة لهم في الخسران . وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم إنما ابتعوهم لوجَاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد ، لِما شاهدوا فيهم من شبهة مصحِّحة للاتباع في الجملة . ومَن قرأ بسكون اللام فجمع ولد ، كأسَد ، وأُسْد . { ومَكَروا } : عطف على صلة " مَنْ " ، والجمع باعتبار معناه ، كما أنَّ الإفراد في الضمائر الأُوَل باعتبار لفظها ، والماكرون هم الرؤساء ، ومكرهم : احتيالهم في الدين ، وكيدهم لنوح ، وتحريش الناس على أذاه ، وصد الناس عن الميل إليه ، { مكراً كُبّاراً } عظيماً في الغاية ، وهو أكبر من " الكُبَار " بالتخفيف ، وقُرىء به ، والكُبَّار : أكبر من الكبير ، وقُرىء شاذًّا بالكسر جمع كبير . { وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهتكم } أي : لا تتركوا عبادتها على العموم إلى عبادة رب نوح ، { ولا تَذَرُنَّ وَدًّا } بفتح الواو ، وضمها لغتان : صنم على صورة رجل ، { ولا سُوَاعاً } صنم على صورة امرأة ، { ولا يَغُوثَ } صنم على صورة أسد ، { وَيَعُوقَ } صنم على صورة فرس ، وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين ، والتعريف والعُجمة إن كانا عجميين ، { ونَسْراً } صنم على صورة النسر ، وخصُّوا بالذكر مع اندراجهم فيما سبق لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم ، وقد انتقلت هذه الأصنام عنهم إلى العرب ، فكان وَدّ لكلب ، وسُواع لهمدان ، ويغوث لمَذْحِج ، ويَعُوق لمُراد ، ونَسْر لحمير . وقيل : هي أسماء رجال صالحين ، كان الناس يقتدون بهم ، بين آدم ونوح عليهما السلام ، وقيل : أولاد آدم ، فلما ماتوا ، قال إبليس لمَن بعدهم : لو صوّرتم صورهم ، فكنتم تنظرون إليهم ، وتتبرّكون بهم ، ففعلوا ، فلمّا مات أولئك ، قال لمَن بعدهم : إنهم كانوا يعبدونهم ، فعبدوهم . وقال ابن عباس رضي الله عنه : أول ما عُبِدَ من الأصنام في زمن مَهْلائِل بن غَيْنَان بن أنوش بن شيت بن آدم عليه السلام ، وذلك لمّا مات آدم جعله بنو شيت في مغارة بأرض الهند ، في جبل سرنديب ، لموضع يسمى نوره ، وهو أخصب جبل في الأرض ، ثم كانوا يزورونه ، ويترحّمون عليه ، ويُعطمونه ، فلما قَتَل قابيلُ أخاه هابيل نفوه من الأرض ، فكان بمعزل عنهم هو وبنوه ، فجاء الشيطانُ في صورة رجل ناصح ، فقال لهم : إنَّ بني شيت يتبرّكون بآدم ، وأنتم لا تلحقونه ، فانحتوا صورته ، وتبرَّكوا بها ، ففعلوا ، ثم كان لشيت ولد صالح ، اسمه يغوث ، فتُوفي ، فكانوا يتبرّكون بقبره ، فنحتَ أولادُ قابيل على صورة يغوث صورة أخرى ، ثم يعوق ، ثم ود ، ثم سواع ، ثم نسر ، كلهم من أولاد شيت قوم صالحون ، كانوا يتبرّكون بهم في المحْيا والممات ، ولم يكن لأولاد قابيل سبيل إليهم ، فنحتوا صورهم ، وصاروا يُعظِّمونها ، ويتبرّكون بها مثلهم ، فلما طال بهم الزمان صاروا يعبدونهم دون الله ، إلى أن بعث الله نوح عليه السلام فنهاهم عنها ، فلم ينتهوا ، فلما أهلك الله الأرض ومَن عليها بالطوفان ، قذف الطوفانُ تلك الأصنام إلى أرض جُدة وما والاها من مكة ، وأخفتها الرمال هناك . قال الكلبي : وكان عَمرو بن لُحي كاهناً ، يُكنّى أبا تمامة وكان يتراءى له الجن ، فتراءى له يوماً جنِّي ، وقال له : عَجِّل أبا تمامة بالسعد والسلامة إلى صف جدة ، واستخرج ما فيها من الأصنام ، وأوردها ماء تهامة ، ولا تسأم ولا تهب ، وادْع العرب إلى عبادتها تُجَب ، فأتى عمرُو بن لُحي ساحلَ جدة ، حيث وصف له الجني ، واستخرج الأصنام في خِفية عنهم ، وأرودها ماء تهامة ، فلما حضر الحج ، واجتمع الناس إلى الموسم ، دعا الناس إلى عبادتها ، فأجابته العرب قاطبة ، وأول مَن أجابته بنو عوف بن عُزرة ، فدفع لهم ودًّا ، فنصبوه بواد القرى بدومة الجندل ، ولم يزل عندهم إلى الإسلام ، فكسره خالد بن الوليد ، لَمَّا بعثه الرسولُ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لهدم دومة الجندل فحالت بينه وبينها العرب فقاتلهم وكسَّر صنمهم . قال : الكلبي : قلت لمالك بن الحارث : صف لي ودًّا ، وكان قد رآها مراراً ، قال : تمثال رجل أعظم ما يكون من الرجال ، مؤتزر بحُلة ، مرتدٍ بأخرى ، مقلَّداً سيفاً ، راكباً فرساً ، وفي يده حربة فيها لواء ، ومعه قوس ، ونبل في جعبة . هـ . ثم دفع عمرو لمُضر سُواعاً ، فعكفت على عبادته مع هُذيل ، ثم فرّق تلك الأصنام على القبائل على حسب ما تقدّم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيتُ عمْرو بن لُحي ليلة أُسري بي رجلاً أحمر ، قصيراً أزرق ، وهو يَجُرُّ قُصْبَهُ في النار ، لأنه أول مَن بَحَّرَ البَحيرة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحام ، وغيّر دين إسماعيل " ، وهو من خزاعة ، كان يسكن مكة ، فولد بها أولاداً فكثروا ، فنفوا مَن كان منها من العماليق . انظر اللباب . ثم قال تعالى : { وقدْ أَضلوا } أي : الرؤساء ، أو : الأصنام ، كقوله : { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ ٱلنَّاسِ } [ إبراهيم : 36 ] { كثيراً } أي : خلقاً كثيراً ، { ولا تزد الظالمين إِلاَّ ضلالاً } ، قال المحشي : وقد يقال : إن هذه الجملة مسببة عما قبلها فحقها الفاء ، لكن تُركت لمكان الاستئناف ، أي : البياني ، كأنه قال : فما تريد بهذا القول ؟ فقال : ولا تزد الظالمين . هـ . ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالظلم المفرط ، وتعليل الدعاء عليهم به . والمراد بالضلال : الهلاك ، كقوله : { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] . { مما خطيئاتِهم } أي : من أجل خطيئاتهم . " وما " مزيدة للتوكيد والتفخيم ، { أُغرقوا } بالطوفان . وتقديم " مما " لبيان أن إغراقهم ودخولهم النار ، إنما كان لأجل خطاياهم ، لا لسبب آخر ، { فأُدْخِلوا ناراً } عظيمة ، والمراد : إمّا عذاب القبر لأنه عقب الإغراق ، أو حين كانوا في الماء ، فقد رُوي أنهم كانوا يغرقون من جانب ، ويُحرقون من جانب . أو : عذاب جهنم ، والتعقيب لقربه باعتبار تحقُّق وقوعه . وتنكير " النار " إما لتعظيمها وتهويلها ، أو لأنه تعالى أعدّ لهم نوعاً من العذاب على حسب خطيئاته ، { فلم يجدوا لهم من دون اللهِ أنصاراً } ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله ، وفيه تعريض بعدم نفع آلهتهم ، وعدم قدرتهم على نصرهم . قيل : كان قوم نوح أهل وُسع في الزرق ، فطَغوا ، وكانوا يؤذون نوحاً ، ويحرشون عليه ويضربونه ، حتى ربما يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " . كما في الحديث . { وقال نوحٌ رَبِّ لا تَذّرْ على الأرض من الكافرين ديَّاراً } أي : أحداً يدور في الأرض ، وهو " فَيْعَالٌ " من الدّورِ ، وهو من الأسماء المستعلمة في النفي العام ، يقالك ما بالديار ديَّار وديّور ، كقيّام وقيوم ، أي : أحد ، وأصله : دّيْوار ، ففعل به ما فعل بسَيِّد . { إِنك إِن تَذَرْهُم } ولا تهلكهم { يُضلُّوا عبادك } عن طريق الحق ، يدعوهم إلى الضلال ، { ولا يلدوا إِلاَّ فاجراً كفاراً } أي : إلاّ مَن إذا بلغ جحد وكفر ، وإنما قال ذلك لاستحكام علمه بما يكون منهم ومن أعقابهم ، بعدما خبرهم واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنة ، أو : يكون بعد إخباره تعالى له بقوله : { أَنَّهُ لِن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ } [ هود : 36 ] . { رَبِّ اغفر لي ولوالدي } وكانا مسلمَين ، واسم أبيه : لَمَك بن مُتَوشْلح ، واسم أمه : شمخاء بنت أنوش ، وقيل : المراد : آدم وحواء . قال ابن عباس : لم يكفر بنوح والد بينه وبين آدم عليه السلام ، وقُرىء : " ولولديّ " يريد ساماً وحاماً ، { ولِمَنْ دَخَلَ بيتي } أي : منزلي ، أو مسجدي ، أو سفينتي { مؤمناً } ، ولعله قد علم أنَّ مَن دخل بيته مؤمناً لا يعد إلى الكفر ، وبهذا القيد خرجت امرأته وابنه كنعان ، ولم يجزم عليه السلام بخروجه إلاَّ بعدما قيل له : { إِنَّهُ لِيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] ، { وللمؤمنين والمؤمنات } إلى يوم القيامة . خصَّ أولاً مَن يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه ، ثم عمَّم ، { ولا تزد الظالمين } أي : الكافرين { إلاَّ تباراً } إهلاكاً . قال ابن عباس رضي الله عنه : دعا نوح عليه السلام بدعوتين ، إحداهما : للمؤمنين بالمغفرة ، وأخرى على الكفارين بالتبار ، فاستجيب على الكافرين ، فاستحال ألاَّ تُجاب دعوته في حق المؤمنين . واختلف في صبيانهم : هل أُغرقوا ؟ فقيل : أعقم اللهُ أرحامَ نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة ، فلم يكن منهم صبي حين أُغرقوا ، وقيل : أهلك أطفالهم بغير عذاب ، ثم أغرق كبارهم ، وقيل : غرقوا معهم كما غرق سائر الحيوانات ، وهو المشهور لأنّ المصيبة تعم ، ثم يُبعثون على نياتهم . والله تعالى أعلم . الإشارة : وقال نوحُ الروح ، أي : شكت الروح إلى ربها ، وقالت : إنَّ النفس وجنودها عَصَوني ، واتبعوا حال المنهمكين في الدنيا ، الفانين في أموالهم وأولادهم ، فلم يزدهم ذلك إلاّ خساراً ، ومكروا بي ، حيث راموا مني الميل إليهم ، مكراً كُبَّاراً ، وقالوا : لا تَذَرُنَّ آلهتكم من الدنانير والدراهم ، ولا تَذَرُنَّ ود الدنيا ومحبتها ، ولا سُواع الهوى والحظوظ ، ولا يغوث الرياسة والجاه ، ولا يَعوق العلائق والشواغل ، ولا طيور الهواجس والخواطر ، يعني : لا تستعملوا ما يُخرجكم عن هذه الأشياء ، مِن خرق العوائد ، والزهد ، والورع ، بل أقيموا على تنمية دنياكم ، وتوفير هواكم ، وقد أضلُّوا كثيراً ممن يقتدي بهم . وقالت أيضاً : لا تزد الظالمين من هؤلاء إلاّ ضلالاً هلاكها وانقطاعاً . مما خطيئاتهم أُغرقوا في بحر الدنيا ، فأُدخلوا نار القطيعة ، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً ، وقال نوح الروح أيضاً : لا تَذرْ على أرض البشرية من الكافرين من القواطع التي تقطعني عن السير بظلمتها ديّاراً ممن يدور بها ، ويُقوي حسها ، إنك إن تذرهم يدورون بها ويقطعونها عن السير ، ويُضلوا عبادك عن الوصول إليك ، ولا يلدوا منها إلاَّ خاطراً فاجراً كفّاراً . رَبِّ اغفر لي ، خطابٌ من الروح ودعاء ، ولوالدي من العقل الكلي ، والنفس الكلي ، وهو الروح الأعظم ، ولِمن دخل بيتي ، أي : تمسّك بطريقتي ، ودخل في زمرتي ، ولأرواح المؤمنين والمؤمنات ، ولا تزد الظالين الخارجين عن طريقتي إلاَّ تباراً . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم .